أثارت مقالتنا الأخيرة في صحيفة ''الاتحاد'' والتي حملت عنوان: ''العرب أمام فك الارتباط بين الديمقراطية وبين الغرب والبورجوازية''، حالة من الحوار الساخن في بعض الأوساط الأكاديمية والسياسية، وضمن ذلك برزت مجموعة من الانتقادات لبعض ما ورد فيها من أفكار، وكان عنوان المقالة نفسه في مقدمة هذه الانتقادات· وقد جاء ذلك بالصيغة التالية: إذا كان الفضل في التأسيس للنظام الديمقراطي يعود للغرب الحديث، الذي انطلقت منه ثورات جذرية أنتجت مجتمعات جديدة، فإنه لا يعود ذا أهمية أن نجد هنا وهناك من تواريخ شعوب أخرى عناصر تقترب كثيراً أو قليلاً من ذلك النظام· أما النقد الآخر الذي أتى متوافقاً مع ما سبقه، فقد انطلق من التشكيك الكلي في أن نهضة أو اتجاهاً نهضوياً ما كان قد أفصح عن نفسه في أواخر القرن الثامن عشر وتبلور في عقود من القرن التاسع عشر· ورأى أصحاب هذا الرأي أن ما حدث من تشكّلٍ أولي لبعض الحضور الحداثوي النهضوي في الفكر كما في الحياة العربية الحديثة (في مصر خصوصاً)، لم يكن أكثر مما أطلق عليه ''الصّدمة''، والتي نشأت عبر علاقة الالتقاء ''الطارئ'' بين مصر والغرب إبّان حملة نابليون بونابرت· ولعلنا نرى أن النظر النقدي يمكن أن يجد مزيداً من النقاط النقدية أو القابلة للنقد في مقالتنا آنفة الذكر· ومما يضاعف أهمية البحث المعمق في النقطتين آنفتي الذكر أن الأحداث التي تمر على الساحة العربية، تقدم نماذج بحثية مهمة على صعيد ما نحن بصدده· وكي نعالج جوانب أخرى من الموضوع المطروح نطرح تساؤلين أساسيين، أولهما: هل مقبول من الناحيتين التاريخية والسوسيوثقافية النقدية أن يقال: إن الغزاة يأتون إلى مصر أو سوريا··· إلخ في سبيل التأسيس لمشروع نهضوي حداثوي ديمقراطي فيها؟ وبعبارة أخرى: كيف لمِن أتى غازياً -أي نابليون- أن يكون مصلحاً؟ أما التساؤل الثاني فهو: كيف يمكن أن يقوم خارجٌ ما (وهو الغرب في هذه الحالة) بإنتاج مشروع من النمط النهضوي الحداثوي الديمقراطي لصالح داخلٍ ما، بالنيابة عن أهله، بل ربما ضد أهله؟
في سياق الأفكار والنتائج المحتملة لما أتينا عليه، نواجه أمرين اثنين، يرى ''غرايم جيل'' أن غيابهما من مجتمع ما هو بمثابة الإقرار بغياب النظام الديمقراطي من هذا المجتمع، يتمثل الأول في ''المجتمع السياسي''، في حين يظهر الثاني بصيغة ''المجتمع المدني''· ففي كتابه ''ديناميات السيرورة الديمقراطية والمجتمع المدني''، يكتب ''جيل'': في الحالات التي توجد فيها جماعات مستقلة، لكن مع قيود على نشاطها السياسي··· أمكننا القول إننا على الأرجح إزاء قوى مجتمع مدني وليس مجتمعاً مدنياً··· وقد نظرنا إلى المجتمع المدني عموماً كقضية مهمة على طريق تحقيق الديمقراطية، لأنه حلقة وسيطة بين نظام السلطة من جهة وبين جماهير الشعب من جهة أخرى· ها هنا يضع المرء يده على حدٍ معين من الشرطية بين الفعلين السياسي والمدني، من أجل التأسيس لنظام ديمقراطي يشتغل على آليات خاصة به، ومنها التعددية السياسية والحزبية والإيديولوجية وغيرها، والانتخابات الحرة عبر الكوّة السوداء، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، وحرية الرأي والتعبير بطرق علنية، إلى جانب الاحتكام لآليات صراع سلمي بين فئات المجتمع وطبقاته وشرائحه·
أما السؤال الذي يغدو، هنا، مشروعاً وضرورياً، فيقدم نفسه مشخّصاً، أي محدداً بحدود الموقف العربي، وذلك هو: هل من المحتمل أن نتحدث عن حضور معيّن للمجتمع السياسي والآخر المدني في التاريخ العربي الحديث والمعاصر، لولا أنه وجد نفسه محاصراً من مشروع غربي-رأسمالي عاتٍ كان في طور اجتياح العالم العربي؟ لن تكون إجابتنا قاطعة، ولكن سنشير إلى أن اتجاهات وميولاً نهضوية كانت قد أفصحت عن نفسها في التجارب النهضوية ببلدان عربية معينة، كمصر وسوريا والعراق وتونس، حيث كانت فئات من النخب المستنيرة تقدم مقاربات أوّلية في آليات الحكم القائم على حدود معينة من العدل والمساواة والحرية·
بل لعلنا نشير إلى نقطة تجسد مثلاً عميق الدلالة هنا، وتقوم على إرهاصات لم تكن بسيطة باتجاه التأسيس لنظام ديمقراطي يحميه مجتمع سياسي ومجتمع مدني، خصوصاً في سوريا خلال مرحلة الاستقلال، لكن الذي حدث بعد سنوات قليلة أن مشروع الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958 كان مشروطاً بالتخلي عن المجتمع السياسي الحزبي في كلا البلدين، أي بالتخلي عما كان عليه أن يحمي الوحدة العتيدة في وجه نظام سياسي استبدادي محتمل·