لم تولد الفكرة الوطنية، بما تتضمنه من معاني الحرية والمساواة القانونية والمشاركة في السلطة على قدم المساواة بين جميع الأفراد، ولا الأمم التي نشأت عنها، من الفراغ، ولكنها بنيت بالجهد وبالاستثمار التاريخي لنخب استبطنت قيمها ومبادئها، وعملت على تغيير شروط حياة الأفراد النفسية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية بما يعمم هذه القيم ويحقق المبادئ، وساعدت على تغيير أنماط سلوكهم تجاه الدولة والقانون الذي يمثلها وتجاه بعضهم بعضاً· وفي هذا السياق نشأت أشكال تضامن جديدة وطنية تتجاوز التضامنات العصبية الموروثة، الطائفية والقبلية، وتستلهم قيما إنسانية عمومية· لذلك لا توجد الوطنية، أي الرابطة السياسية النوعية، بمعزل عن سياسة ذات أهداف وطنية، تقوم بها النخب الحاكمة وتكفلها الدولة بوصفها التجسيد المباشر للسيادة الشعبية·
فالوطنية هي، بهذا المعنى أيضا، مشروع تاريخي لا يتحقق إلا عبر التطبيق الدائم لأجندة وطنية، بما تشمله من برامج اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية لا غنى عنها لتكوين أية أمة· ومن دون هذه البرامج الوطنية تنتكس العلاقة داخل المجتمعات الحديثة بسرعة إلى طابعها العصبوي القديم، حتى في الدول التي حققت مكاسب كبيرة على هذا الطريق· ولو طبقت النخب الحاكمة أجندة طائفية أو عشائرية أو دينية فستكون النتيجة دولة طائفية أو عشائرية أو دينية· ولو كفت الدول الكبرى الراهنة عن تطبيق أجندتها الوطنية أو عجزت عن تحقيقها، لانهارت لحمتها الوطنية هي أيضاً ولم يبق ما يجمع بين أفراد شعوبها، بالرغم من كل الإنجازات التاريخية، ومن رسوخ القيم الوطنية في الثقافة المحلية· فلو تخلت الدول الأوروبية عن برنامج الديمقراطية، وصرفت النظر عن تنظيم السوق الاقتصادية الوطنية، وافتقرت إلى منظومات الدفاع الناجعة عن سيادة شعوبها واستقلالها، واستبدلت سياساتها الدفاعية بسياسات أمنية داخلية قائمة على تسليط أجهزة الأمن على مواطنيها، للانتقاص من سيادتهم وتقليص حرياتهم والاعتداء على حقوقهم أو تجريدهم منها، وأحلت لغة العنف والعقاب الوقائي والجماعي محل التطبيق الفردي والسليم للقانون، وقبلت بعدالة تقريبية خاضعة لمزاج أصحاب السلطة والمال والعلاقات العشائرية والمحسوبية، كما هو الحال في أغلب الدول العربية، لما بقيت فرنسا فرنسا ولا بريطانيا بريطانيا ولا ألمانيا ألمانيا· فهذه الأجندة هي المضمون الحقيقي لعقد الوطنية الذي أعاد بناء العلاقات الاجتماعية على أسس مختلفة عن الأسس القرابية والدينية· ولا تجتهد النخب الاجتماعية في تحسين أدائها، والبحث عن الحلول الأنجع للمشاكل الاجتماعية، إلا لإثبات مقدرتها على المحافظة على عقد الوطنية هذا، ومن وراء ذلك على جدارتها في الحكم، وهو مصدر الشرعية، وما يرتبط بتحقيقها من استقرار الدولة وانسجام المجتمع وضمان الوحدة الوطنية·
ومن الواضح أنه من دون هذه الأجندة الوطنية، التي تكمن وراء بناء الأمة أو الرابطة السياسية، وتضمن وحدتها واستمرارها، تبقى الدولة في العصر الحديث آلة صماء، مفتقرة للفكرة الموجهة وخالية من أي أجندة تاريخية، وقابلة للانقلاب على المجتمع والتجيير لصالح تنفيذ أي أجندة خاصة بالفئات التي تحتل أجهزتها الإدارية والعسكرية والسياسية· وهو ما حصل بالفعل، ليس في العالم العربي فحسب، ولكن في العديد من بلدان العالم التي لم تنجح في تطبيق برنامج التحول الوطني أو أخفقت فيه· ومن الطبيعي في هذه الحالة أن تنحسر الرابطة الوطنية، مع أشكال التضامن والوحدة المواكبة لها، وتذبل أيضا العاطفة النابعة منها، لصالح العودة المظفرة للعصبيات الطبيعية التي نشأت قبل نشوء الأمم وبمعزل عنها، أعني التضامنات الدينية والطائفية والعشائرية والثقافية التي أمكن الحفاظ عليها، أو بقيت ذات فاعلية كبيرة، في ظل دول وطنية مفتقرة لشروط بناء أمة، وتكوين الفرد المواطن، بما يتضمنه معنى المواطنة من العلاقة القانونية والسيادة والحرية والمساواة بين جميع الأفراد المكونين للجماعة السياسية· وهذا ما يفسر التحلل والانفجار الذي أصاب العديد من الشعوب والمجتمعات التي كانت تبدو لفترة قريبة وكأنها نجحت في تكوين مجتمعات وطنية، في العالم أجمع·
والحال أن الفكرة الوطنية، والحركة التي ارتبطت بها، قد نشأت في العالم العربي، في سياق الكفاح من أجل الاستقلال ضد القوى الاستعمارية· وتطابق مفهومها أيضا مع الحفاظ على هذا الاستقلال وتحقيق الأجندة المرتبطة به· وبقيت في الحقيقة ''مشروع وطنية'' ينتظر التحقيق عبر أجندة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وبرامج عملية، أكثر منها حركة ناجزة· ولا تختلف هذه النشأة عما حدث مع جميع القوميات والدول الوطنية العديدة التي ولدت في الكفاح ضد عدو خارجي، وليس بالضرورة ضد سلطة قهرية استبدادية داخلية· لكن، بعكس ما حصل في معظم البلاد العربية، لم تمثل الحقبة الوطنية المرتبطة بالاتحاد، ضد خارج عدو، إلا فترة بسيطة شكلت مدخلاً نحو حقبة التأسيس الوطني الداخلية، أي حقبة بناء ا