ثمة من يراهن في واشنطن على أن الرئيس جورج بوش سيعمد إلى خفض عدد القوات الأميركية في العراق قبل شهر نوفمبر المقبل الذي سيشهد إجراء انتخابات الكونغرس· فالعديد من الصحافيين والنواب والموظفين الحكوميين يتوقعون أن يخضع بوش لضغوط قوية من ''الجمهوريين'' الذين يخشون فقدان الأغلبية في مجلس ''الشيوخ'' ومجلس النواب ما لم يرسل بوش إشارات تفيد بقرب انسحاب القوات الأميركية من العراق· وواقع الحال أنهم مخطئون كالعادة لأنه من الخطأ أن تحسب للسياسة حساباتها وتقلل من شأن اعتقادات الرئيس·
الأكيد أن بوش ليس متصلباً أو عاجزاً عن تغيير مواقفه، ولكن من السخف التقليل من شأن هاجس كسب الحرب لدى أي رئيس· والأرجح أن بوش يؤمن بأن العراق سيغرق في حرب أهلية في حال عمل على سحب 50000 رجل من أصل 158000 الموجودين هناك قبل شهر نوفمبر، وذلك بغض النظر عن مدى انعكاس هذا التخفيض على الحملة الانتخابية·
ومن المرجح أن يقاوم بوش الضغوط الرامية إلى خفض عدد القوات بشكل كبير للأسباب نفسها التي دفعت الرئيس جونسون لمقاومة الضغوط التي مورست عليه في 1968 خلال حرب فيتنام، وذلك لأنه لا يوجد رئيس يريد أن يظهر بمظهر من خسر الحرب، وكذلك لأن جونسون لم يكن مرشحا لإعادة انتخابه في 1968 على غرار بوش الذي لن يترشح في ·2006 لقد انسحب ليندون جونسون من السباق الرئاسي في مارس ،1968 لينأى بنفسه عن الضغوط السياسية التي كانت تطالب بخفض عدد الجنود إلى درجة أنه كان يعتقد أن ذلك قد ينسف جهود الولايات المتحدة لمنع تقدم الشيوعية· ولئن كان نائب الرئيس ومرشح ''الديمقراطيين'' للرئاسة آنذاك هوبرت هامفري يدعوه دائما إلى التوقف عن قصف فيتنام الشمالية وبدء المفاوضات مع ''هانوي'' وخفض القوات الأميركية إلى الحد الأدنى، فإن ليندون جونسون تباطأ في وقف القصف والبدء في المفاوضات، بل إنه عمد إلى رفع عدد القوات الأميركية إلى 550000 رجل قبل أسابيع قليلة فقط من الانتخابات·
قد يرد المراهنون المشار إليهم في بداية هذا المقال بالقول إن جونسون كانت لديه حينها تسعة أشهر فقط قبل انتهاء ولايته الرئاسية في حين أن بوش ما تزال أمامه ثلاث سنوات· وقد يقولون إن على بوش أن يبدي استجابة للجمهوريين في الكونغرس أكبر من استجابة ليندون جونسون للديمقراطيين في الكونغرس في ،1968 وإلا فإن الأغلبية ''الجمهورية'' في الكونغرس قد تنقلب ضده ويصبح رئيساً ضعيفاً خلال ما تبقى من ولايته الرئاسية·
غير أن هذه الحجة تتجاهل حقيقة جوهرية تكمن في أن ليندون جونسون كان تلقى ضربة سياسية قوية لم يتعرض لمثلها بوش حتى الآن، ذلك أن جونسون واجه سلسلة من المظاهرات القوية المناهضة للحرب في فيتنام، وأكثر من 30000 جندي أميركي لقوا حتفهم في تلك الحرب· وبالمقابل، لا يواجه بوش سوى حملات احتجاج صغيرة في الجامعات، كما أن عدد الجنود الذين قتلوا يفوق 2000 قتيل بقليل·
إن الرئيس الوحيد الذي قام في السنوات الأخيرة بعمليات سحب كبيرة للقوات خلال الحرب هو ريتشارد نيكسون الذي خفض عدد الجنود في فيتنام من 550000 إلى 70000 جندي قبل ترشحه لولاية رئاسية ثانية سنة ·1972 ولكن خطوة نيكسون هذه لم تكن مغامرة محفوفة بالمخاطر حيث كان عدد القوات البالغ عددها 70000 يفي بالغرض لأنه كان يضم سلاح الجو الأميركي الثقيل، إلى جانب جيش الجنوب الفيتنامي الذي كان قوامه مليون رجل، ناهيك عن تقلص عدد المعارك المندلعة في فيتنام الجنوبية·
وفي ضوء كل ما سبق، يمكن القول إن بوش، الذي يوفق بين المطالب الداخلية بسحب القوات والمخاوف من تدهور الأوضاع الميدانية في العراق، سيسعى إلى تبديد هذه المخاوف· وعلى غرار ليندون جونسون، من الوارد جداً أن يعمل بوش على خفض عدد القوات الأميركية في العراق إلى المستوى الذي يعتبره بعيدا عن نقطة الخطر، ما يعني حسب اعتقادي سحب نحو 50000 جندي قبل نوفمبر·
وانطلاقاً من زيارتي في الربيع الماضي للعراق والتي دامت 10 أيام، وبناءً على الاتصالات التي قمت بها مع المسؤولين الأميركيين هناك، أعتقد أن بوش سيخدم أهدافه في العراق أفضل في حال قام بعمليات خفض أخرى وبسرعة، ويعلن أن الانسحاب الكامل بات وشيكاً· أعتقد أنه على الجزء الأعظم من القوات الأميركية أن يغادر وسط العراق، الذي شكل الساحة الرئيسية للمعارك خلال نحو سنتين، على أن تتم إعادة نشر بعض من هذه القوات شمالاً في كردستان وفي الكويت تحسباً لاندلاع حرب أهلية· وما يدفعني إلى الاعتقاد بهذا الرأي هي نفس الأسباب التي أفصح لي عنها قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال ''جورج كيسي'' الذي قال إن خفض حجم القوات ''لا يغذي مفهوم الاحتلال'' كما ''لا يغذي ثقافة الاستقلالية''· وهو ما يمكن تفسيره بأن العراقيين سيستمرون في الاعتماد علينا إلى أن يقتنعوا بأننا سنترك لهم المهام، كما أن حضورنا على نطاق واسع بقدر ما يغذي أعمال المقاومة بقدر ما يقي من الحرب الأهلية· إن في الأمر حكمة آمل صادقة أن يعمل بها بوش بدل الإذعان لضغوط السياسة أو لهواجسه ال