تعلم المواطن المصري منذ نعومة أظافره، في الحضانات والمدارس حتى عن طريق الإعلام الرسمي، أن مصر تتميز بتجانس تاريخي وجغرافي وسكاني وديني وثقافي وسياسي؛ فقد حافظت على وحدتها عبر التاريخ، رغم ما تعاقب عليها من نظم سياسية متباينة، دخيلة أو أصيلة، أجنبية أو وطنية· ولم تنقسم إلى شمال وجنوب إلا في لحظة واحدة من تاريخها القديم، ثم سرعان ما قام الملك مينا بتوحيدهما، ولبس التاج المزدوج رمزا لوحدة القطر· وكانت الوحدة الوطنية دائما أحد أهداف الحركات الوطنية منذ الملك مينا حتى ثورة 1919 برمزي الهلال والصليب، وحدة المسلمين والأقباط· الشعب متجانس بين الشمال والجنوب، بين بحري وقبلي، بين الدلتا والصعيد· يربطهما وادي النيل والقطار وكما ظهر ذلك في الأغاني الشعبية والأمثال العامية··· لا فرق بين سكان الشمال البيض أصحاب العيون الخضراء أو الزرقاء والشعر الأشقر؛ في المنصورة، وبين سكان الجنوب أصحاب البشرة السمراء والعيون السوداء والشعر الفاحم؛ سكان وادي حلفا· وبالرغم من تفاوت الرزق بين المصريين، والذي يزداد يوما وراء يوم منذ شكاوى القروي الفصيح في مصر القديمة، حتى الهبات الشعبية من أجل الخبز في يناير عام 1977 والأمن المركزي في يناير عام 1986 إلا أن أحدا من المصريين لم يمت جوعا أو عطشا· فمياه النيل متوافرة، والأرض الخصبة فيها قوت للجميع حتى قبل معونة القمح الأميركية· سكانها بدو وحضر، وأرضها واد وصحراء، وطقسها ممطر وجاف، وجوها بارد وحار· ومع ذلك حافظت مصر على وحدتها الجغرافية كما حافظت على وحدتها السياسية· وبرغم طغيان حكامها الذي تجاوز الحد، حتى أصبح لفظ فرعون، وهو حاكمها القديم، معادلا للطاغية المتأله، سواء كان ذلك لدى الفراعنة القدماء أو الفراعنة الجدد··· إلا أن الحد الأدنى من التوافق ظل سائدا بين الحاكم والمحكوم رغم الهبات الشعبية التي لم تنقطع في الشمال والجنوب؛ ثورة ابن الهمام في الصعيد، وثورة عرابي شرق الدلتا·
ويعرف العالم كله حدود مصر الدولية، في المطارات عبر الجو، وفي المدن الحدودية؛ رفح والسلوم ووادي حلفا في الأرض، وفي المدن البحرية؛ الإسكندرية وبورسعيد والسويس في البحر· ويعاني المصريون أكثر من الأجانب، والعرب الفلسطينيون والعراقيون أكثر من المصريين، وأحيانا الباكستانيون أكثر من الكل من الانتظار ''قليلا'' حتى يتم اتخاذ الإجراءات الأمنية الضرورية··· رغم حصول القادمين على تأشيرات دخول من السفارات والقنصليات المصرية في الخارج· بينما يمر الأوروبيون والأميركيون والإسرائيليون بمجرد أخذ طابع بخمسة عشر دولارا من شباك البنك داخل المطار، دون تفتيش أو بحث أو مراجعة لقوائم المشبوهين والممنوعين من الوطنيين المصريين أو المواطنين العرب·
كل ذلك معروف، ويعرفه المصريون الذين يقفون خلال الساعات الطوال، وينتظرون في طوابير الصباح للتقدم إلى نوافذ القنصليات أو السفارات الأجنبية للحصول على تأشيرات دخول، دون أماكن انتظار في الغالب، وعلى قارعة الطريق، في الطقس البارد أو الحار· والذهاب مرة بعد مرة لتقديم الأوراق، والعودة بعد أجل طويل أو قصير لمعرفة ما إذا تمت الموافقة على طلباتهم أو لاستلام الرفض أو استكمال الأوراق، ومنها التأمين الصحي· وفي سفارات الدول الكبرى يحتفظون ببصمات الأصابع والعيون· وفي المطارات الأجنبية يقف المصريون أيضا للتحقق من أن تأشيرات دخولهم غير مزورة··· وهكذا فالعربي مشبوه ومشتبه فيه على الدوام، والمسلم عامة وعلى الخصوص إذا كان بجلباب أو طاقية أو ذا لحية مرسلة!
غير أن القضية تكمن أساسا في الحدود الداخلية، داخل الوطن، في الانتقال من الوادي إلى الصحراء، ومن الشرقية إلى سيناء، ومن شمال سيناء إلى جنوبها، وقبل الدخول إلى المدن الساحلية الشهيرة؛ كالغردقة وشرم الشيخ· وسيناء هي المدخل الشرقي لمصر، والصحراء الغربية هي المدخل الغربي لمصر، ووادي حلفا هو المعبر الجنوبي لمصر·
قبل كل مدينة في سيناء يوجد ''كمين'' وعليه شرطة أو جيش أو مخابرات عامة لفحص الركاب وحقائبهم·
وقد يستدعي الأمر إنزالهم جميعا من العربة في جو بارد كالصقيع أو حار ملتهب، حتى يطمئن الكمين أنه لا يوجد من بين المواطنين إرهابي· لكن مقابل ذلك يدخل الإسرائيليون إلى طابا بلا تأشيرة، طبقا لاتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام، وإلى شرم الشيخ أيضا وباقي مدن سيناء، تشجيعا للسياحة وللاستفادة من دخلها حتى ولو اقترن ذلك بالتفريط في السيادة الوطنية·
لم يتغير الأمر منذ أيام الاحتلال البريطاني لمصر، عندما كانت حدود مصر الشرقية قناة السويس، ولا يعبر المواطن في سيناء إلى الوادي بثروته الحيوانية إلا إذا دفع ضريبة مرور على كل ضأن وماعز وجمل وفرد لأنهم سيطعمون من خضرة الوادي· ولا يسمح للمواطن بالعبور أو السير على ضفاف القناة الغربية من جهة الوادي إلا إذا أخذ تصريحا من جيش الاحتلال أو الجيش الوطني أو الشرطة العسكرية أو شركة قناة السويس؛ فهناك إذن حدود داخل الحدود· والمواطن متهم ومشبوه، عدو للنظام منذ البد