في غضون أزيد من عام بقليل شاء القدر أن تودع دولة الإمارات العربية المتحدة كبيراً آخر من كبارها، كانت له مساهمة رائدة في مسيرة الاتحاد، كما في ورشة البناء التي كانت ولا تزال واعدة· الشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم رحمه الله كان مع الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله، من أوائل صانعي هذه الدولة ورسالتها التي ما انفكت تعبر عن نفسها بالوداعة والمسالمة والانفتاح·
بلغة هذا العصر، كان يمكن اعتبار الشيخ زايد زعيم ''الخضر'' ومثالهم الأعلى بلا منازع، فهو أنجز في هذا المجال أكثر مما تكلم، وبلغة هذا العصر، كان يمكن أيضاً اعتبار الشيخ مكتوم واحداً من أهم ''البيئويين'' لتعلقه بالطبيعة شغفاً بالبحر وعشقاً للصحراء من دون أن يمنع العصر ومتطلباته من أن تأخذ مداها، ومن دون أن يوصد الأبواب أمام المستقبل مهما ناقض هواه ومزاجه·
مع مثل هؤلاء الرجال خطت الإمارات وتخطو بثقة نحو المستقبل، مزروعة بين الماء والرمل، وسط هذا الخليج المتوتر والمضطرب، لكنها تتحول أكثر فأكثر قبلة للأنظار وللزوار الذين باتوا يقرؤون في تجربتها ما يستحق أن يروى في التاريخ الإنساني· فلا قيمة للثروات إذا لم تنعكس على حياة الناس، وإذا لم تكن مساهمتها ملموسة في احترام الأرض والحرص على التنمية، وإذا لم تعطِ معنى للمكان وتقود تحولاً في طبائع البشر· بل، أخيراً، إذا لم توظف لاختصار الوقت طالما أن قطار التقدم على هذه السرعة المجنونة·
كانت هناك إرادة وكان هناك بعد نظر وراء ما أصبحت عليه دبي في حاضرها الراهن، وما أصبحت عليه أبوظبي كذلك، عنواناً عمرانياً وحضارياً لم يسبق أن أنجز مثله خلال الفترة الزمنية نفسها· الإرادة وبعد النظر كانا عند الذين قادوا هذه التجربة وتحدوا بها أنفسهم فيما كانوا يتحدون ظروفا شتى· فأجمل الأمكنة وأعلاها شأناً تلك التي تنجح في أن تكون ملتقى للتعايش بين أجناس وأعراق كثيرة، ولا تخشى أن تتأثر بهذا التمازج الإنساني بل ترعاه وتشجعه وتدفعه إلى أن يكون إيجابياً· كل ذلك فيما يبقى الأصل على أصله، محافظاً على خصوصيته وحقائق أصالته· في تاريخ الاتحاد الإماراتي كان للشيخ مكتوم مكانه؛ أول رئيس للوزراء وحاكماً لإمارة دبي، كانت له مساهمته في ما حققته دولة الاتحاد، وكذلك الإمارة التي باتت على الخريطة العالمية لكل شيء تقريباً في أجندة السنوات المقبلة؛ تجارة وفنوناً ورياضات ومؤتمرات وإعلاماً واتصالات· كبرت الإمارة إلى حد تكاثر معه الخائفون عليها، لكن الأقل خوفاً هم أهلها صانعو هذا الإنجاز والمساهمون الأوائل في جعله حقيقة راسخة· كان الشيخ مكتوم في طليعتهم، وإلى جانبه صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد الذي سيواصل المسيرة بهدوء وثقة، وهو العارف بكل دواخلها وأسرارها، وأهدافها· قد يعترض كثيرون، وقد يستغرب كثيرون، لأن هذه التجربة مضت وتمضي في غياب ما هو متعارف عليه من ''سياسة''· غير أنها تدفع الجميع إلى الاعتراف بأنهم أمام نمط غير مألوف لـ''السياسة''، بل ربما إلى التساؤل: ما هي السياسة في نهاية المطاف؟ قد تكون هذه التجربة أقرب إلى تحقيق غايات السياسة، في ما يعني الإنسان تحديداً، أكثر من السياسات المعروفة، الحائرة والدائرة معظم الأحيان في دوائر مفرغة· إتاحة التعايش لابد أن تعني قبول الآخر، ولابد أن تتوصل إلى تطوير هذه العلاقة بحكم المصلحة وبمنطق الحياة نفسها· والتسامح لابد أن يعني نمط تفكير وطريقة عيش، والمسالمة لابد أن تعني قانوناً يصنعه تمازج الأجناس قبل أن تتصدى الدولة لفرضه·
والأمن والأمان لابد أن يعنيا التزاماً اجتماعياً قبل أن تتكفله السلطات والأجهزة··· تلك هي ملامح سياسة الحكمة وحكمة السياسة التي قدر للإمارات أن تراها مجسدة في الشيخ زايد والشيخ مكتوم، رحمهما الله·