كان حضوره السياسي مؤثرا كما كان العسكري طاغيا· كان صقرا من الصقور وجنرالا في الجيش، أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي الذي مازال ينازع حتى كتابة هذه السطور، والذي ينتظر أن يكون خبر وفاته خبرا عاجلا في وكالات الأنباء في أي وقت· الأزمات الصحية التي توالت على شارون الأسابيع القليلة الماضية ترافقت مع أزمات سياسية عاشها وساهمت في تغييرات سياسية على الساحة الإسرائيلية أبرزها انفصاله عن حزب ''الليكود'' وتأسيسه لحزب ''كاديما''· تطورات متسارعة ستؤثر على مستقبل المنطقة لا نملك إلا الالتفات إليها، فلم يكن غريبا أن يعبر بعض الفلسطينيين المحبطين عن فرحتهم بأزمة شارون الصحية التي قربته من الموت بتوزيع الحلوي، فجنرال الحرب والسلام كان كارثة على الفلسطينيين في الأراضي الفلسطينية والمحتلة واستخدامه للقوة القصوى كان أكثر من مسموح في نهجه، قوائم الأموات الأحياء شاهد على قسوته في التعاطي مع قادة حماس وغيرها من المنظمات الفلسطينية· السور العازل إحدى ''إنجازاته'' الصارخة· الانسحاب الأحادي من غزة وتفكيك المستوطنات الإسرائيلية في غزة آخر ''إنجازاته'' التي حولته من صقر إلى حمامة سلام·
وأياً كانت وجهات نظرنا في شارون فقد كان مدرسة سياسية لمن يريد أن يتعلم الأساليب الميكيافيلية في ممارسة السياسة· جمع الشخصية العسكرية مع الشخصية السياسية وهي خلطة قلما تنجح، فقد تصل الدبابات العسكرية للحكم كما في العديد من التجارب العربية لكن قلما ينجح هؤلاء العسكريون كسياسيين، ولا يقاس النجاح بالطبع بسنوات البقاء في السلطة فنحن غالبا ما نعرف أن البقاء في السلطة لا يستند لبرامج سياسية ناجحة بل يرتبط بعوامل أخرى أبسطها غياب أو تغييب المعارضة وتلك قصة تطول، لكن الوضع في إسرائيل يختلف· لا نستطيع أن ننكر وجود ديمقراطية نوعا ما بمعنى التداول السلمي للسلطة والانتخابات، والأحزاب السياسية الإسرائيلية تتصارع على كسب هوى الناخب الإسرائيلي· نتفهم ردود الأفعال العاطفية من ضحايا شارون في غزة ومخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وحتى تصريحات الرئيس الإيراني المتمنية ذهابه إلى الجحيم، لكن لابد من التوقف عند ماذا يمثل شارون في إسرائيل؟ وماذا يعني غياب شارون عن خريطة الشرق الأوسط؟
المشهد السياسي الإسرائيلي مازال غائما، وخروج شارون من الحياة السياسية أصبح مؤكدا حتى لو عاش بعد أزمته الصحية هذه، مرحلة سياسية جديدة آخذة في التشكل· نهاية مرحلة شارون وبداية مرحلة جديدة فلأول مرة في تاريخ الدولة العبرية لا تكون مسـألة الخـلافة علي مستوى القمة محسومة بشكل دقيق· والأحزاب السياسية الإسرائيلية لازالت تعيش مرحلة من الضبابية وانعدام الوزن· حزب ''كاديما'' الذي أسسه شارون قبل أسابيع بعد أن ترك حزب ''الليكود'' الذي أسسه لإصراره على السير في طريق السلام مع الفلسطينيين· الشخصية الكاريزمية لشارون كانت محور الحزب الذي كان يتوقع أن يفوز في الانتخابات العامة المنتظر عقدها في 28 مارس المقبل· استطلاعات الرأي والتوقعات كانت تشير إلى أن يكون شارون رئيس الوزراء المقبل في ظل الانتصار المتوقع لحزبه ''كاديما''· فهل لغياب شارون عن المشهد السياسي تأثير على استمرارية حزبه الناشئ رغم كل التأييد الشعبي الذي حظي به، وحزب ''كاديما'' الذي يمثل اليوم تيار الوسط المعتدل، بين يمين ''الليكود'' المتطرف بزعامة نتانياهو ويسار حزب ''العمل'' بزعامة عمير بيريتس يمثل الوسط الذي يسعى إلى السلام والأمن، عبر تحقيق مشروع الدولتين القوميتين المستقلتين، فلسطين، وإسرائيل· إن التحولات السياسية الأخيرة لشارون تستدعي مراجعة لسياسته، لقد نجح باقتدار في إدارة الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي لصالح إسرائيل دائما، وذلك من خلال كل المواقع التي شغلها في حياته السياسية فالبلدوزر الإسرائيلي الذي بنى المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي المحتلة في الضفة الغربية والقطاع عندما كان وزيرا للزراعة في حكومة بيغن، ها هو بعد عشرين عاما يأمر بإخلاء وهدم مستوطنات غزة والانسحاب الأحادي منها· كلتا العمليتين كانتا لصالح الدولة العبرية، وكل سياسة أو قرار اتخذه شارون كان لتعزيز أمن إسرائيل، ومع مرارة الانسحاب من غزة وخسارته لأصوات المتدينين الإسرائيليين، كان شارون قائد الحرب وجنرال السلام الوحيد القادر على تقديم أفضل ما يمكن تقديمه للفلسطينيين إسرائيليا دون التفريط في ''الحقوق القومية'' ودون أن يخسر الناخب الإسرائيلي أو أن يتم التشكيك في وطنيته· فكل تنازل قدمه شارون في حياته كرئيس للوزراء كان عملا أحادي الجانب، مصمماً فقط لتعزيز أمن إسرائيل، فلم يسعَ آنذاك للوصول لحل دائم لمشكلة الشرق الأوسط ولم يظهر في برنامجه السياسي أي إشارة لحل الدولتين، فالدولة الفلسطينية التي برزت في نهج شارون مجرد محمية صغيرة على أرض غزة تسيطر على معابرها إسرائيل لا تدخل فيها القدس الشرقية، فلم يعمل على تعزيز سلطة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ولم يسعَ حتى للمضي على خطة خريطة الطريق· كان مناورا بار