قبل حوالي خمس عشرة سنة وضعت الحرب الأهلية في لبنان أوزارها، ودخل البلد في حالة من الاستقرار الأمني الذي ظلّ يخفي توتراً سياسياً وطائفياً، وكان ذلك إثر توقيع وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف السعودية بين الأطراف اللبنانية وبرعاية عربية ودولية، وقد جاءت هذه الوثيقة التي أطلق عليها فيما بعد دستور الطائف، وكرّست ضمن بنودها، وفي الممارسة توزيع مراكز القوى الأساسية في النظام وفقاً لمنطق المحاصصة المذهبية والطائفية·
وهكذا دخل لبنان مع بداية عام ،1990 ومع إقرار هذه الوثيقة حالة من الاستقرار الأمني، ولكن تحوّل بفضل هذه الوثيقة من دولة لها قوانينها ونظامها الذي يحتكم إليه الناس، إلى مجرد طوائف مجتمعة في وطن لكل منها مصالحه الخاصة· انقضت هذه الأعوام ولبنان يعيش هذه الحالة، حتى جاءت المتغيرات التي بدأت تعصف بالمنطقة بدءاً من العراق، وقد وصلت رياحها إلى لبنان، فكانت القرارات الدولية، وكان خروج الجيش السوري منه، وكانت موجة الاغتيالات والتفجيرات التي تنتقل من مكان إلى آخر، مخلـّفة نوعاً من الفوضى والإرباك، وإذا بلبنان يتحوّل في ظلّ هذه المستجدات إلى ساحة تشبه إلى حد بعيد الساحة الملتهبة والمتفجرة في العراق، وكأن المراد هو نقل الحالة العراقية إلى الساحة اللبنانية·
وإذا كان هذا حال الساحة اللبنانية، فإن الساحة العراقية بدأت تعاني من أمر آخر وبدأت تدخل مرحلة جديدة يتحوّل فيها العراق من دولة ووطن لكل أبنائه إلى مجرد مساحة أرض تجمع عدداً من القوميات والعرقيات والطوائف والمذاهب، وليتمّ التخلي عن القانون والنظام الذي يضبط العلاقة بين أبناء هذا الوطن لحساب توزيع مراكزه الأساسية بين الطوائف والعرقيات المكوّنة لمجموع هذا الشعب، وكأن المراد من كل ذلك تعميم النموذج اللبناني فيما يتعلق بتنظيم شؤون البلاد على الساحة العراقية وكمقدمة لتعميمه على مختلف دول المنطقة· وما الحالات الأمنية التي تعيشها الساحة العراقية، وما الأوضاع التي تمخضت عنها الانتخابات الأخيرة إلا المقدمة التي يُقرّ بعدها الدستور العراقي الجديد الذي بات الكل مقتنعاً بأنه لن يكون أفضل حالاً من ''دستور الطائف'' الذي ينظـّم العلاقة بين اللبنانيين·
وبناءً عليه فإننا نرى أن الجهود التي تبذل من الأطراف التي لها مطامع في هذه المنطقة تنصبّ في المرحلة الحالية على تعميم النموذج اللبناني في الساحة العراقية، وهذا ما نطلق عليه لبننة العراق، والأخطر من ذلك تعميم النموذج العراقي في الساحة اللبنانية عبر التفجيرات والاغتيالات والسيارات المفخخة، وهو ما نطلق عليه عرقنة لبنان، لأن من شأن ذلك التمهيد لفتنة طائفية قد يكون من نتائجها تدمير مقدرات المنطقة، وإعادتها عقودا إلى الوراء بعد الثورات الحضارية التي شهدتها·
وائل نجم- بيروت