يعيش العالم هذه الأيام الذكرى المئوية السادسة لوفاة العالم العظيم ابن خلدون· وهي ذكرى ذات أهمية عالمية، ناهيك عن أهميتها العربية الخصوصية· ولد الرجل عام 1332م أي في قرن كان تعبيراً عن أفول العصر العربي، بالرغم من أن ما قدمه يدخل في عمق الإنجاز الحضاري العربي، إذن، لِمَ ذلك؟ قد يصح القول إن ابن خلدون جاء بمثابة حصيلة لذلك الإنجاز على الصعيد السوسيولوجي والعمراني، وتتويج له، في آن· والملفت في ذلك أن تلك الحصيلة لم تُفصح عن ثمارها في أيام مبدعها نفسه أولاً، ولا في عصره ثانياً، وليس في الحقل العربي الذي ينتمي إليه ثالثاً·
ثمة رسالة بعث بها الروائي مكسيم غوركي إلى المفكر الروسي أنوتشين بتاريخ 21 سبتمبر عام ،1912 ويقول فيها: ''إنك تنبئنا بأن ابن خلدون، في القرن الرابع عشر كان أول من أظهر دور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج، إن هذا النبأ قد أحدث وقع خبر مثير''· ومن ثم، نضع يدنا على دليل جديد على تهافت نظرية ''المركزية الأوروبية''، التي ترفض القول بوجود تأثيرات عميقة مُورست على تكوين الحضارة الأوروبية الحديثة من خارجها عموماً ومن مرجعية عربية على نحو الخصوص· ها هنا، يتضح أمر هائل الدلالة الحضارية، وهو أن الفكر العربي الوسيط أسهم، بعمق، في تكوين حضارة أصبحت ذات طابع عالمي مفتوح· في هذه المناسبة الكبيرة، مناسبة مرور ستمائة عام على وفاة ابن خلدون، يجدر بنا أن نشير إلى ثلاث مسائل يمكن اعتبارها -مع اكتشافه لدور العوامل الاقتصادية وعلاقات الإنتاج- محاور حاسمة في الفهم العلمي للحركة الاجتماعية· أما المسألة الأولى فيحددها في ''أن الشيء سبب ذاته''، أي في أن المجتمع -موضوع البحث- لا يمكن فهمه إذا نُظر إلى آلياته وبنيته من خارج، مما يستدعي الإلمام العميق بها جميعاً، وكأن ذلك بمثابة دعوة لتأسيس علم المجتمع (عند ابن خلدون: علم العمران)·
وتبرز المسألة الثانية في تأكيد العلاّمة على التنبه إلى وهْمٍ يشيع عادة في أوساط ''أهل الحلّ والربط'' وأوساط أخرى، وهو أن المجتمعات لا تخضع لسنّة التحول والتغير، لأن القول بهذا الأخير من شأنه التأكيد على أن كل شيء -بما في ذلك النظم السياسية وقياداتها- إلى زوال، وأنه من ثم لا خلود فوق التاريخ: ''من الغلط الخفيّ في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام''· وهنا، تُفصح عن نفسها المسألة الثالثة وتقوم على القول إنه ''لابد من العمل الإنساني'' وإن ''الكسب هو قيمة الأعمال البشرية''·
كم هو مهم وخطير في تاريخ الفكر العربي والعالمي أن يأتي ابن خلدون ليضع أسساً منهجية ونظرية للعلم الاجتماعي، الذي بهدْيه تتمكن الشعوب من بناء تاريخها بوعيٍ تاريخي وإرادة صائبة· في هذا السياق، جدير بنا أن نشدّد على إحدى المسائل السابقة، ونأتي على مسألة أخرى· أما الأولى فنشدد عليها مع تقديمها للشعوب العربية ومثقفيها خصوصاً؛ نعني مسألة التغير الاجتماعي، التي إذا ما جرى تجاهلها، فإن عقابيل خطيرة تنشأ عنها، لتُحوّل المجتمعات إلى جزر صغيرة بمياه راكدة تنتهي إلى العدم، وتُنهي أصحابها عبر إخراجهم من التاريخ· هذا يحدث راهناً في أوساط واسعة من العرب، الذين يحرصون على البقاء في قوقعتهم، غير عابئين بتيار التغير المتدفق فــي المرحلة العالمية المعاصرة· أما الآخر الذي ينبغي الإتيان عليه في هذه الحال ومن موقع النظرية الخلدونية الحصيفة، فيتكثف في الأطروحة التالية: إن الدولة تجد نفسها أمام حركة مفتوحة، تبدأ بمقتضى قوانين وضوابط محدّدة بعوامل الشجاعة والتضامن والحيوية· ثم تدخل مرحلة ما من ازدهار هذه الدولة عبر العلم والنشاط الاقتصادي، ولكن كذلــك من خلال محاولات الاستئثار بالسلطة والثروة لصالح الأعلين· ويكون هذا بمثابة الولوج إلى التفكّك، بعد أن يكون الفساد قد اخترق هؤلاء وأبعدهم عن المواطنين وجعلهــم يبحثون عن وسائل تقيهم نتائج الانهيار، يرونها غالباً فــي الاستقــواء بالخارج· إن هــذه الأطروحـــة إذا مـا قرئت في ضوء عصرنا ومرحلتنا العربية، فإن نتيجة خطيرة ستكون أول نتائجها: تفكك النظــم العربيــة الراهنــة الفاسـدة بفعلٍ متســارع يفعل بمقتضى القولــة الجميلة الحكيمة: لقـد انقلب السحر على الساحــر! إن ابن خلدون هـو الآن بالنسبة إلينا نقطة إقلاع كبرى باتجاه قراءة انكساراتنا على نحو تاريخي دقيق، ومحاولة إعادة البناء: ولكــن اليــوم قبل غداً·