ستتميز الفصول الدراسية في المستقبل بسبورات إلكترونية بيضاء، وسيكتب أساتذة المستقبل المعادلات على هذه السبورات بأقلام إلكترونية· أما طلبة المستقبل فلن يكونوا في حاجة إلى الاختيار بين التركيز على ما يقوله الأستاذ وكتابة المعادلات في دفاترهم، وإنما سيكرسون كل وقتهم وطاقتهم للاستماع إلى شروحات الأستاذ، ليقوموا بعد ذلك بتحميل المعادلات في حواسيبهم المحمولة الموصولة بطاولاتهم·
الواقع أن الأمر ليس كذلك تماما، فالفصل الدراسي الذي أتحدث عنه ليس من وحي الخيال، بل موجود وقد زرته منذ شهر في معهد ''فيلور'' للتكنولوجيا· و''فيلور'' هي بلدة صغيرة في جنوب الهند، تعاني بعض الفقر نظرا لكون أسقف بعض مبانيها مصنوعة من القش عوض المعدن الواقي من الأمطار، وقد كانت حتى عهد قريب معروفة فقط بمركزها الصحي المسيحي الكبير الذي أنشأ بمساعدات مالية من الخارج، ولكنها باتت الآن تحتضن هذه المؤسسة التعليمية التقنية التي تستقبل 9000 طالب، وتضم ملعبا رياضيا ومركزا للشركات الناشئة في مجال التقنيات العليا ومختبرا علميا متطورا· إلى ذلك، تشهد البلدة حركة عمران كبيرة، فأينما وليت وجهك تجد بنايات جديدة قيد الإنشاء، فهنا مثلا تجد مركبا جديدا يضم عدة مختبرات، وهناك مبنى حديث لإيواء الطلبة·
لقد أنشأ هذا المعهد سنة 1984 حيث كان يستقبل حينها 180 طالبا، وأضحى نموه اللافت يرمز إلى الهند الحديثة، تماما كما ترمز القصور والقلاع إلى الهند القديمة· ويعد نجاحه هذا جزءا من حركة كبيرة تشمل جميع أرجاء الهند وتتمثل في إنشاء المؤسسات التعليمية، التي تعد بدورها جزءا من المعجزة الاقتصادية التي حققتها الهند، والتي تشكل التكنولوجيا محركها القوي· ففي عام 2005 كونت الهند 200 ألف مهندس، أي ما يعادل نحو ثلاثة أضعاف ما كونته الولايات المتحدة وحوالى ضعفي ما كونته أوروبا برمتها· إلا أن الإحصائية التي تبعث على الذهول تتمثل في أن سنة 2005 شهدت تسجيل 450 ألف طالب في التخصصات الهندسية من أربع سنوات، ما يعني أن عدد المهندسين الذين سيتخرجون في الهند سيتضاعف بحلول عام ·2009
والمذهل أيضا هو الاستراتيجية التي تتبعها الهند، فالذي أتاح هذا الإقلاع ''الهندسي'' ليس الزيادة في ''عرض'' الجامعات التي يمولها دافعو الضرائب أو الجهات المانحة الأجنبية، بل الزيادة في ''الطلب'' على هذا التعليم من قبل الطلبة الذين يدفعون الرسوم، وهو الطلب الذي يستجيب له بطبيعة الحال المستثمرون في هذا القطاع، ذلك أن كل أربعة من أصل خمسة طلبة من تخصص الهندسة في الهند يدرسون في الجامعات والمعاهد الخاصة· ففي عام 2003 مثلا استقبل معهد ''فيلور'' للتكنولوجيا نحو 7000 طلب للدراسة، في حين قفز هذا الرقم إلى 44000 طلب سنة ·2005
النظام التعليمي الهندي شهد هو الآخر نموا كبيرا، فحسب إحصائيات رسمية، قفزت نسبة التلاميذ المتراوحة أعمارهم بين 6 و14 عاما، والذين يدرسون في مدارس خاصة، من حوالي 10% إلى نحو 25% من مجموع هذه الفئة العمرية، وذلك منذ بداية عقد التسعينيات· ومن جانبه، وجد ''جيمس تولي'' من جامعة نيوكاسل في بريطانيا أنه في بعض الأحياء الفقيرة في الهند يدرس حوالي ثلثي الأطفال بمدارس خاصة، العديد منها غير معترف به رسميا، وبالتالي فإن الإحصائيات التي تجرى على صعيد البلاد لا تشملها·
لقد أثارت أسباب تكاثر المدارس الخاصة النقاش حول مفهوم التنمية، ليس في الهند فقط، وإنما في سائر البلدان الفقيرة، حيث ترى جمعيات محاربة الفقر أن التعليم هو السبيل إلى التنمية، أي أنه في حال قامت الحكومات ببناء المدارس ودربت المعلمين، فإن نتيجة ذلك ستكون التقدم· والحقيقة أن نجاح الهند في الصناعات التي تحتاج إلى أدمغة مؤهلة مثل صناعة البرامج الحاسوبية وصناعة المنتوجات الصيدلية، تعزز هذه النظرية وتزكيها إلى حد ما، إذ لطالما استثمرت الحكومة الهندية في كليات هندسية نخبوية تخرج منها مهندسون كانوا وراء النجاح الذي عرفته البلاد في مجال التقنيات العالية· ولكن ينبغي الإشارة كذلك إلى أن هذه النخبة المؤهلة والمتخصصة ما كان لها أن تحقق ما حققته في حال استمرت سياسة الدولة الاقتصادية على ما كانت عليه، إذ لم يسطع نجم الهند في مجال التقنيات العالية إلا بعد الإصلاح الاقتصادي الذي اعتمدته في التسعينيات·
إن النهضة التي عرفتها الهند مؤخرا في مجال التعليم الخاص يمكن أن تكون حمالة أوجه، فالتربية قد تؤدي إلى التنمية وقد لا تؤدي إليها، وكل ذلك يتوقف على توفر الظروف الاقتصادية المساعدة والمواتية· ولكن مما لا يختلف عليه اثنان أن التنمية يمكنها بالضرورة أن تؤدي إلى نهضة تعليمية، فمنذ أن انفتحت الهند على اقتصاد السوق في بداية التسعينيات، توفر للآباء سبب للاستثمار في التعليم، حيث رأوا الرواتب التي يعرضها القطاع الخاص تشهد ارتفاعا مطردا، ما حفزهم وجعلهم يحرصون على حصول أبنائهم على تعليم يؤهلهم للعمل في ذلك القطاع· وهكذا شهدت المدارس الابتدائية الخاصة إقبالا متزايدا لأنها توسع آفاق الأطفال وتدرس