لعل بلدا في عالمنا الحديث لم يذق مثل ما ذاقه السودان من محن ومآس وتطورات دامية على مدى نصف القرن الماضي من تاريخه· فبعد ما خبره أهل السودان من ظلم وإذلال وهوان··· أثناء عهد الحكم الثنائي، هبت ريح الاستقلال ليتطلع السودانيون نحو أفق جديد لحياة عصرية كريمة وراقية، لكن ما هي إلا سنوات قليلة حتى بدأت الانحرافات والمكائد السياسية تطبع بصماتها الثقيلة على صفحة الحياة العامة، لتبدأ نكبات السودان مجددا مع الانقلابات العسكرية التي ألغت التعددية الديمقراطية وفرضت حكم الجيش وقبضته القاسية على البلاد، وما رافق ذلك من فساد وإفساد واسعين· وأمام مشروع الدولة الوطنية الذي بدأ يتهاوى، لم يكن هناك الكثير مما يقنع فئة سكانية مثل أهل الجنوب بالبقاء داخل إطار السودان الواحد، فحملوا السلاح في وجه الدولة، فردت هي أيضا بأسلوب قاس ترك مرارته في نفوس الخارجين ليصبح خروجهم إرثا تتبادله أجيالهم اللاحقة· وهكذا ابتلي السودان بحرب الجنوب التي دامت نحو ربع قرن وسقط خلالها نحو مليون قتيل وعانت الدولة السودانية ما عانت من نزيف اقتصادي أضر أيما ضرر بالمستويات المعيشية للسكان· وأصبحت البلاد ساحة لتدخلات إقليمية ودولية كثيرة أرادت تحقيق مصالحها من خلال تسعير الحرب وإدامتها على حساب السودان وأمنه ووحدته الترابية! وفيما استطاع السودانيون في الشمال والجنوب، أن يضعوا حدا لتلك المأساة الطويلة، تفجر صراع آخر في إقليم دار فور، ثم تبعه قيام جبهة أخرى في الشرق··· ليصبح السودان خريطة للحرائق والرصاص!
وبينما تتراجع احتمالات إيجاد حل لمعضلات التمزق الداخلي في السودان، وتتعاظم ديناميات التعثر، فإن الأسباب المباشرة والعميقة لذلك التفسخ، تظل هي رعونة النخب السياسية وأنانيتها، ولكن قبل ذلك وبعده؛ آفة التدخل الخارجي وأطماعه المقيتة·
زهير عوض- مكة المكرمة