ناقشت في مقالي السابق ما يروج من إشاعات حول الموت المبكر للمفارقة السياسية، وأن ذلك ينطوي على الكثير من المبالغة لأن المفارقة مازالت قائمة بيننا ولم تمت· ففي الوقت الذي تعلن فيه إدارة الرئيس بوش أن الهدف من شنها الحرب على العراق إنما يتمثل في تحويله إلى منارة للديمقراطية في الشرق الأوسط، اهتزت مصداقية تلك المزاعم على ضوء الاكتشافات الأخيرة المتعلقة برشوة وزارة الدفاع الأميركية الصحف العراقية لنشر مقالات تشيد بالجهود الأميركية في العراق· وقد تنبه قارئ أميركي إلى المفارقة التي تنطوي عليها تلك الممارسات عندما أرسل بتعليق إلى جريدة ''نيويورك تايمز'' يقول فيه ''إنها لمفارقة كبيرة أن يتم، باسم الديمقراطية، توظيف أموال الضرائب التي أدفعها من أجل نشر مقالات في الصحف العراقية تنتقد موقفي المعارض لسياسة الحكومة الأميركية''· وقد زادت مرارة المفارقة التي تغلف مجمل الوضع في العراق عندما تم الكشف عن الممارسات العنيفة التي تقوم بها الحكومة العراقية المدعومة أميركياً، وهي الممارسات التي لا تختلف كثيرا عما كان سائدا إبان حكم صدام حسين· وقد أشارت منظمة ''هيومن رايتس ووتش'' في تقريرها الصادر في 25 يناير 2005 إلى الانتهاكات الخطيرة التي تطال حقوق الإنسان حيث ذكرت أن ''الاعتقال غير القانوني والحبس الانفرادي طويل الأمد، علاوة على سوء معاملة المعتقلين من قبل السلطات العراقية باتت ممارسات منتشرة على نطاق واسع''·
وفي نفس السياق تم الكشف في شهر نوفمبر الماضي عن معتقلات تابعة لوزارة الداخلية العراقية· كما كشف النقاب عن وجود معتقل آخر خلال الشهر الجاري حيث خضع فيه المعتقلون للتعذيب، وهو ما أكده المسؤولون العراقيون أنفسهم بما في ذلك رئيس الحكومة السابق إياد علاوي الذي أكد وجود انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في السجون العراقية تفوق ما كان يمارس في عهد صدام حسين· غير أن المفارقة تصبح أكثر حدة عندما نعرف أن المسؤولين الأميركيين الذين يديرون العراق فعليا أبلغوا السلطات العراقية والمجتمع الدولي إثر الكشف عن تعذيب المعتقلين أن ''التعذيب هو عمل غير مقبول''· وتبلغ المفارقة ذروتها عندما نعرف أن تلك التصريحات المنددة بسوء معاملة المعتقلين تأتي من إدارة أميركية دافعت دون استحياء عن ممارسة التعذيب، وقامت بعرقلة أية مساعٍ لإجراء تحقيق حول ممارساتها من خطف وحجز بمعتقلات سرية في بعض مناطق العالم· ومما يزيد من المفارقة أن الذين استماتوا في الدفاع عن التعذيب ومحاولة تشريعه لم يكونوا من الرتب العسكرية المتدنية، بل كانوا من المسؤولين الأعلى رتبا في هرم السلطة الأميركية، بما في ذلك الرئيس بوش نفسه الذي هدد برفض أي تشريع يقيد استعمال التعذيب ضد المحتجزين في المعتقلات الأميركية، فضلا عن الضغوط التي مارسها نائب الرئيس ديك تشيني طيلة الفترة السابقة على الكونجرس الأميركي لتشريع التعذيب، وهو ما حدا بصحيفة ''واشنطن بوست'' إلى وصفه بأن التاريخ سيتذكره كأول نائب رئيس أميركي ''يناضل من أجل تشريع التعذيب''·
ولكي نقلب المفارقات تصوروا جدلا أن مجلس الأمن الدولي أصدر قرارا يطلب فيه من الإدارة الأميركية التعاون الكامل مع الأمم المتحدة بشأن التحقيق في مسؤوليتها عن إعلان حرب غير شرعية على العراق على أسس مضللة وما ترتب عليها من قتل آلاف من الضحايا الأبرياء في العراق· وتصوروا أيضا أنه بعد فشل مجلس الأمن في تمرير قرار يهدد باللجوء إلى القوة العسكرية ضد إدارة بوش، ستعلن إيران قيادتها لتحالف يضم كوريا الشمالية وكوبا لشن هجوم استباقي على إدارة بوش يروم نزع أسلحتها والمحافظة على السلم والأمن الدوليين· لو حصل ذلك، هل ستكون تلك ''أم المفارقات''؟ كلا، إنها لن تكون سوى أحد التغيرات الواردة في موازين القوى العالمية ولو بعد حين· وكما يخبرنا التاريخ فإن التحولات التي تطال الساحة العالمية والقوى الدولية ليست من شطحات الخيال، وهي بالتأكيد ليست إحدى مفارقات إدارة بوش التي تبرع في نسف الديمقراطية باسم المبادئ والقيم الأخلاقية·