أجريت أول انتخابات ديمقراطية لانتخاب أول برلمان سوداني في أوائل عام ،1954 بمراقبة وإشراف لجنة دولية برئاسة القاضي الهندي سوكوماسن وحصل ''الحزب الوطني الاتحادي'' -الذي تشكل من اندماج أحزاب الأشقاء والاتحاديين والأحرار الاتحاديين ووحدة وادي النيل وقيادات جنوبية بارزة- على أغلبية المقاعد النيابية مما أهله لتشكيل أول حكومة سودانية خالصة منذ سقوط دولة المهدية··· وجاء ترتيب ''حزب الأمة'' في المرتبة الثانية برغم حصوله على عدد أكبر من أصوات الناخبين السودانيين··· وجاء ترتيب حزب الأحرار الجنوبي بقيادة السيدين بوث ديو واستسلاوس عبدالله بيساما في المرتبة الثالثة، وحصل حزب الجبهة المعادية للاستعمار (حزب اليسار) على مقعد واحد فاز به عن دوائر الخريجين الأستاذ حسن الطاهر زروق· وانتخب البرلمان زعيم الاتحاديين ورئيس حزبهم المغفور له السيد إسماعيل الأزهري رئيسا للوزراء والسيد إبراهيم المفتي رئيسا للبرلمان، واعترض الحاكم العام السير روبرت هاو على رئاسة المفتي لأنه كما ذكر في رسالة خطية وجهها إليه ''لا يريد أن تبدأ التجربة البرلمانية السودانية برئاسة زعيم حزبي رغم اقتناعه وتقديره واحترامه لكفاءة ومقدرة السيد إبراهيم المفتي الشخصية''، ورشح البرلمان بالإجماع قاضي المحكمة العليا السيد بابكر عوض الله (الذي سيصبح عام 1969 نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة عقب انقلاب مايو)··· ووافق الحاكم العام··· واختار حزب الأمة وحلفاؤه النائب الاستقلالي المستقل المحامي والمهندس والشاعر الأديب محمد أحمد محجوب (الذي سيصبح فيما بعد وزيرا للخارجية ورئيسا للوزراء) لزعامة المعارضة البرلمانية·
وبانعقاد البرلمان الأول وانتخاب الحكومة (حكومة الرئيس الأزهري الأولى) بدأت ''الفترة الانتقالية'' المنصوص عليها في اتفاق فبراير عام 1953 بين مصر وبريطانيا لتقرير المصير بالنسبة للسودان، وبدأت ملحمة رائعة من ملاحم الحركة الوطنية السودانية أبدع وأظهر فيها السودانيون قدراتهم ووعيهم السياسي وإيمانهم العميق بالديمقراطية منهجا وسلوكا، وحرصهم الدائم والثابت على وحدتهم الوطنية وهزموا فيها بالسياسة وأسقطوا كل تنبؤات عميد الإدارة الاستعمارية (آنذاك) السير جيمس روبتسون· فقد كان السير جيمس روبتسون تنبأ عقب فوز الحزب الوطني الاتحادي بأن حربا أهلية مدمرة ستنشب بين الاستقلاليين (دعاة الاستقلال والاتحاديين -دعاة وحدة وادي النيل) وكان أول امتحان أثبتت فيه الإدارة السودانية قدراتها وحكمتها هو حوادث أول مارس عام 1954 الدامية··· في ذلك اليوم رفض الرئيس إسماعيل الأزهري (النصيحة) بإعلان حالة الطوارئ وإنزال قوات الجيش إلى الشارع لحفظ الأمن··· واستطاع زعماء الحكومة والمعارضة وقادة الطائفتين الكبيرتين (الختمية والأنصار) نزع فتيل الفتنة وتجاوز الأزمة الحادة باحتكامهما إلى القانون والقضاء المدني·
وتحركت مسيرة السودان الديمقراطية الأولى ولم تتوقف··· وأنجزت الحكومة والبرلمان السوداني المهام الدستورية المنصوص عليها في اتفاقية الحكم الذاتي في نصف المدة المحددة لها··· فتمت السودنة وإجلاء القوات البريطانية والمصرية عن البلاد··· وعين أول رئيس سوداني للقضاء المستقل عن السلطتين التشريعية والتنفيذية وألغيت القوانين الاستعمارية المقيدة للحريات وازدهرت الحياة السياسية وتضاعف النشاط الحزبي··· وألغيت السخرة (العمل بأمر إداري دون أجر) التي كانت سائدة في جنوب البلاد ومناطق الانقسنا (جنوبي النيل الأزرق)··· وكل هذه الإنجازات الرائعة التي حققها البرلمان السوداني الأول والتي قد تبدو اليوم أمورا عادية في نظر الأجيال الراهنة، كانت ملاحم سياسية صنعها الشعب السوداني وحققها برلمانه المنتخب ديمقراطيا بإجماع طرفيه -الحكومة والمعارضة- وسط ظروف وصعوبات سياسية بالغة التعقيد··· وكانت قمة إنجازات البرلمان الديمقراطي الأول قراره الأشهر في أواخر عام 1955 بإعلانه السودان دولة مستقلة كاملة السيادة وتحديده يوم الأول من يناير عام 1956 موعدا لذلك لإعلان ورفع العلم الوطني بيدي رئيس الحكومة (الأزهري) وزعيم المعارضة (المحجوب)··· ذلك الإعلان الذي أدهش العالم ووقفت أمامه دولتا الحكم الثنائي مذهولتين ولم تملكا سوى الاعتراف به···