في عام 1954 قام الأطباء في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة بإجراء أول عملية زراعة لكلية بشرية، تلا ذلك نجاح أول عملية زراعة كبد في جامعة كولورادو في عام ،1963 ثم نجاح أول عملية زراعة قلب في عام 1967 على يد الجراح كريستيان برنارد في جنوب أفريقيا· هذه الاختراقات الأولى على طريق زراعة الأعضاء البشرية، كانت تهدف في بدايتها لإنقاذ حياة المرضى من خلال منحهم أعضاء حيوية بدلا من أعضائهم التالفة· ولم يكن ليخطر على بال الرواد من الأطباء والعلماء، أن نجاحاتهم تلك سوف تستخدم لاحقا لأغراض غير أساسية وأحيانا جمالية، ضمن صناعة تدر مئات الملايين من الأرباح· فمثلا أصبح من الشائع استخدام أجزاء من الجلد المنزوع من الجثث، لأغراض تجميلية خاصة لدى عارضات الأزياء· وأصبح أطباء الأسنان يعتمدون على منتجات تستخدم طحين عظام الموتى، في علاج مئات الآلاف من مرضاهم كل عام· هذه الاستخدامات، وغيرها الكثير، يمكنك أن تجدها مدرجة في العديد من الكتالوجات الفاخرة، والتي يحتوي بعضها على مئات المنتجات المشتقة من أجساد وجثث بشرية· ففي العديد من دول العالم حاليا، ينتشر عدد لا يحصى من الشركات المتخصصة في تصنيع وبيع المنتجات المعتمدة على الأعضاء والأنسجة البشرية· وعلى الرغم من أن القانون في معظم تلك الدول يحرم التربح من الجثث البشرية، إلا أن هذه التجارة الرائجة تحقق مبيعات سنوية تتخطى قيمتها مئات الملايين من الدولارات· فالجثة البشرية الواحدة، والتي يمكنها أن تنتج (مواد أولية) بقيمة آلاف الدولارات، أصبحت منجم ذهب يتربح منه الكثيرون· فأحيانا ما تزيد قيمة الجرام الواحد من المنتج النهائي، المستخدم فيه نسيج أو عضو بشري، عن قيمة جرام واحد من الذهب أو الماس· وعلى عكس ما يعتقد الكثيرون، لا تقتصر هذه التجارة على لصوص المقابر وتجار السوق السوداء، بل يشاركهم فيها أيضا العديد من الشركات متعددة الجنسيات، والمدرجة أسهمها في أسواق المال العالمية·
ولكي نفهم الأبعاد الأخلاقية والاقتصادية والعلمية لهذا التطور الجديد في عالم تجارة الأنسجة والأعضاء البشرية، يجب أن نتوقف قليلا عند أساسيات وجوانب هذا المجال الحديث في الطب· بداية نذكر أن مصطلح (زراعة) لا يصف بدقة ما يحدث في تلك العمليات، حيث إن ما يحدث هو في الحقيقة نقل لعضو من شخص إلى آخر، ولذا يعتبر نقل الأعضاء (organ transplant) هو التعبير الأدق· وبوجه عام تقسم هذه العمليات إلى قسمين، الحيوي وغير الحيوي· في القسم الحيوي، يكون الهدف هو إنقاذ حياة المريض، كما في عمليات زراعة القلب أو الكلى أو الكبد· أما القسم غير الحيوي، فغالبا ما يهدف إلى استعادة وظيفة مفقودة، وإن كانت غير ضرورية للبقاء على الحياة· كما في حالات زراعة القرنية، كعلاج لفقدان البصر نتيجة قتامة القرنية· أو كما في حالات استخدام الأربطة العضلية، لاستبدال الأربطة الممزقة لدى الرياضيين، أو عند استخدام أجزاء من الجلد، لعلاج بعض أمراض المثانة البولية· وتقسم عمليات الزراعة أيضا حسب المصدر، والذي إما أن يكون شخصا حيا أو شخصا متوفى· وغالبا ما تقتصر حالات نقل الأعضاء من أحياء على إحدى الكليتين أو جزء من الكبد، حيث إنهما العضوان الحيويان الوحيدان، اللذان يمكن الاستمرار في الحياة بواحدة فقط، كما في حالة التبرع بكلية، أو بدون جزء صغير، كما في حالة التبرع بجزء من الكبد· أما في حالات نقل الأعضاء من الموتى، فساعتها إما أن يكون المنقول عضوا كاملا كالقلب أو الكليتين، أو مجرد نسيج، كما في حالات نقل القرنية والأربطة العضلية· وبخلاف الاستخدامات العلاجية، تستخدم الأعضاء والأنسجة البشرية لأغراض الأبحاث الطبية والعلمية على نطاق واسع· هذا الغرض الأخير ربما كان هو السبب الرئيسي خلف الزيادة الضخمة في الطلب على الأنسجة البشرية، مثل الجلد والدم والحبل السري والمشيمة وخلايا الأجنة، وحتى الأنسجة التي تم نزعها من المرضى لأسباب تشخيصية أو علاجية· كل هذا التنوع في المطلوب من الأنسجة البشرية لهذا الغرض أو ذاك، والزيادة المستمرة في حجم الطلب، خلقا سوقا رائجة تباع وتشترى فيها هذه الأنسجة، حيث أصبحت العيادات والمعامل والمستشفيات موردين، وأصبحت مراكز البحوث وشركات الأدوية مستهلكين· هذه السوق للأسف، لا تلتزم بدرجة كافية من المعايير الإنسانية والأخلاق الطبية· وربما كان أفضل مثال لإظهار هذه الحقيقة، هو المنظمات (الخيرية) التي تقوم بحملات دعائية مستمرة، بهدف تشجيع الناس على التبرع بأعضائهم في حياتهم، أو بأعضائهم وأنسجتهم بعد وفاتهم· وبعض هذه المنظمات والهيئات، تعلن عن نفسها بأنها هيئات (غير متربحة)، أي أنها لا تحصل على أرباح مقابل جمع الأنسجة والأعضاء من المتبرعين· وما تغفل هذه المنظمات ذكره، أن الأرباح الهائلة التي تحققها من الثمن الباهظ الذي تبيع به الأنسجة، يتم توزيعها على موظفيها في شكل مرتبات ضخمة· فليس من غير المعتاد أن يحصل مديرو تلك المنظمات على مرتبات تبلغ مئات الآلاف -وأحيانا الملايين- من الدولارات سنويا·