قبل أربعة عشر عاما، وبالتحديد في ديسمبر 1991 قام الزعيم السوفييتي الأسبق ميخائيل جورباتشوف بالإعلان عن انتهاء الحرب الباردة ليسدل الستار على حقبة مرعبة من التاريخ البشري تميزت بما كان يسمى وقتها بتوازن الرعب بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي· وبإقدامه على توقيع المرسوم الذي تم بموجبه تفكيك الاتحاد السوفييتي أنهى جورباتشوف عهدا من سباق التسلح والعسكرة المجنونة التي كانت تهدد الأمن والسلم العالميين وتنذر بإلحاق كوارث مروعة بالعالم وتحويله إلى أرض يباب· ولازلنا نذكر كيف تنفست شعوب العالم الصعداء بعد اختفاء شبح حرب نووية بين المعسكرين ظل يلقي بظلال كثيفة من الخوف والرعب في نفوس شعوب العالم· وبانفراط عقد الاتحاد السوفييتي وزوال خطر حرب نووية بين روسيا والولايات المتحدة اعتقد الكثير من المحللين بأن العالم مقبل على فترة من الأمن والرخاء غير مسبوقة في التاريخ البشري· لكن سرعان ما تبدد الحلم الجميل إذ تحول خطر الصواريخ المحملة برؤوس نووية وهي تمطر المدن الأميركية إلى خطر من نوع آخر تمثل في تهديد الإرهاب العالمي الذي بات ينذر بزعزعة استقرار العديد من الدول بعدما تحول إلى آفة عالمية ذات أخطار ماحقة·
وعندما ينظر الإنسان إلى حقبة الحرب الباردة يكتشف أنها لم تكن بتلك الخطورة بالنظر إلى الأخطار المحدقة بالسلم العالمي في السنوات الأخيرة· فبالرغم من الاختلاف الأيديولوجي بين المعسكرين الذي أدى إلى اندلاع سلسلة من الحروب بالوكالة، إلا أن الطرفين كانا يعرفان بعضهما بعضاً جيدا ويدركان يقينا أنه لا أحد وصل إلى درجة الجنون التي تدفعه لاستخدام ترسانته النووية ضد الآخر لأن ذلك يعني ببساطة التدمير الكلي المتبادل· بيد أن الأمر اليوم يختلف كليا مع صعود ظاهرة الإرهاب العالمي التي تتولى إدارتها جماعات وخلايا نائمة تتوزع على العديد من مناطق العالم يصعب تتبعها ومواجهتها بالشكل الذي كانت تتواجه به القوى الكبرى في السابق· وفي ظل الجهود المضنية التي تبذلها الولايات المتحدة لمعالجة معضلاتها الخارجية ينقلنا كتاب ''الحرب الباردة: تاريخ جديد'' لمؤلفه جون لويس جاديس إلى فترة سابقة تعتبر رغم مخاطرها وأوقاتها الصعبة أكثر وضوحا وأقل التباسا من المرحلة الراهنة لأن العدو كان وقتها مكشوف الوجه عكس ما هو عليه الحال اليوم مع الإرهاب· ومن خلال هذا الكتاب يقوم المؤلف، وهو أستاذ التاريخ في جامعة ييل الأميركية والخبير في قضايا الاتحاد السوفييتي بتعقب فترة الحرب الباردة التي طغت على السياسة الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى مطلع التسعينيات· غير أن ما يميز هذا الكتاب عن باقي الكتب التي ألفها جون لويس جاديس حول القضايا التاريخية المختلفة هو الجمهور الواسع نسبيا الذي يهدف المؤلف إلى التواصل معه من خلال كتابه الحالي والخروج من دائرة الأكاديميين الضيقة التي كانت توجه إليها الكتب السابقة· يسعى المؤلف إلى إطلاع أكبر عدد ممكن من القراء على تاريخ الحرب الباردة عبر سرد أهم الوقائع التي مرت بها والمنعطفات الحاسمة التي كادت في بعض اللحظات تخلط الأوراق كلية وتدفع العالم إلى شفير الهاوية· ومن تلك اللحظات الدقيقة التي يقف عندها الكاتب تلك الأزمة التي اندلعت بين كوبا والولايات المتحدة فيما بات يعرف ''بأزمة خليج الخنازير''· فمباشرة بعدما وجه الرئيس الأميركي تهديدا إلى كوبا باجتياحها أرسل الاتحاد السوفييتي بطارية لإطلاق الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية إلى كوبا لتنصب باتجاه أميركا· وطيلة صفحات الكتاب لا يخفي المؤلف موقفه من الحرب الباردة التي يحمل وزرها على الاتحاد السوفييتي، خصوصا القائد ستالين الذي قام بعسكرة بلاده وحول روسيا من بلد فلاحي بإمكانيات محدودة إلى دولة مدججة بالأسلحة تسعى إلى تصدير النظام الشيوعي إلى باقي الدول· ولئن كانت ''إمبراطورية الشر'' قد استطاعت أن تسجل بعض النقاط على حساب الولايات المتحدة، خصوصا في حرب فيتنام التي خرجت منها أميركا مثخنة بالجراح، إلا أن الاتحاد السوفييتي أدمى أنفه أمام أنظار العالم عندما سحب جيوشه من أفغانستان تحت الضربات العنيفة للمجاهدين الأفغان المدعومين أميركيا· ويشير المؤلف إلى الاختلاف الجوهري بين المعسكرين معتبرا أن التباين كان محتدما حول نظرة كل طرف منهما إلى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية· فقد تبنى الأميركيون نظرة تعددية تجاه العالم تقوم على تشجيع التعاون بين الدول لتكريس حق الاستقلال السياسي وتقرير المصير، بالإضافة إلى دعم الاندماج الاقتصادي للدول الكبرى والاعتماد على منظمة الأمم المتحدة لتعزيز الأمن والسلم الدوليين· وبالطبع ينطلق المؤلف من موقف مساند لبلاده في حرب يثبت التاريخ أن الولايات المتحدة كانت ضالعة أثناءها في أعمال قذرة وتدخل سافر في الشؤون الداخلية للدول النامية لدعم الأنظمة التي تدور في فلكها وتجيش الميلشيات للقضاء على الحركات الماركسية كما كان يتكرر باستمرار في أميركا الجنوبية دون الاكتراث برغبة الشعوب· كما أن ا