أثار النقاش الأخير الذي جاء على خلفية الكتاب الذي أصدرته مؤخرا الكثير من ردود الأفعال تجاوزت الإيضاحات التي قصدت تقديمها للرأي العام حول الفترة التي قضيتها في العراق· لكن بالرجوع إلى تلك المرحلة الحافلة بالأحداث هاكم بعض الدروس والعبر المستخلصة من تجربتي في العراق· أولا شكلت جهود الإصلاح وتصويب ما أفسدته العقود السابقة من القمع والاستبداد في العراق تحديا كبيرا لم أقل أبدا إنه سوف يكون سهلا، بل إنني أعترف بوقوع بعض الأخطاء التي ساهمت في تعقيد الموقف وتأخير عملية إعادة الإعمار· وعلى سبيل المثال انظروا إلى الطريقة التي تم بها التعاطي مع مسألة استئصال البعث من الحياة السياسية والوظائف العامة· لقد كان ذلك القرار صائبا في نظري بالنظر إلى الدور المحوري الذي كان يضطلع به الحزب في ترسيخ القمع واحتكار السلطة خلال فترة صدام حسين· غير أن القصد من سن تلك السياسة كان منع القلة القليلة من رموز حزب البعث من ممارسة السلطة والتي لم تكن تتعدى 1 في المئة في كل الأحوال·
بيد أن الخطأ كان في تطبيق السياسة وبلورتها على أرض الواقع حيث عهد بتنفيذها إلى جهاز داخل الحكومة الناشئة في العراق مما أدى إلى إساءة استعمالها من قبل بعض السياسيين العراقيين الذين استخدموها سلاحا في أيديهم لتصفية الحسابات السياسية والثأر لأنفسهم من الإقصاء والتهميش الذي كانوا يعانون منه في السابق· والواقع أنه كان يتعين تكليف هيئة قضائية مستقلة بالإشراف على عملية استئصال البعث· وقد أخطأنا كذلك في العراق بتركيزنا على المشاريع الكبرى لإعادة الإعمار بدل الاهتمام بالمشاريع الآنية التي تمس حياة المواطنين مثل شق الطرقات الحديثة، وإقامة محطات توليد الطاقة الكهربائية وغيرها من المشاريع الأخرى المرتبطة بالحياة اليومية للشعب العراقي· وبالرغم من أهمية المشاريع الكبرى على المدى البعيد، إلا أنها تأخذ وقتا مديدا قبل الاستفادة منها، وهو خطأ كان علينا تفاديه والتركيز على الاحتياجات العاجلة للعراقيين·
والأكثر من ذلك أن المشاريع الكبرى الخاصة بإعادة إعمار العراق واجهت العديد من العراقيل البيروقراطية وقواعد التعاقد التي زادت في تأخير إنجازها· لذا كان من واجبي المطالبة وقتها بإعفاء تلك المشاريع من القواعد البيروقراطية حتى نتمكن من إنجازها في أقرب الآجال· وقد تبدت هذه العراقيل واضحة بعد أسابيع من قدومي إلى العراق، حيث علمنا أنه يوجد في بغداد ستة مستشفيات تحتاج بشكل عاجل إلى مولدات كهربائية لتشغيل غرف الجراحة والمكيفات· وبعد استشارة مدير الموازنة أخبرني أن هناك حلين لا ثالث لهما· إما اللجوء إلى أموال أميركية وفي هذه الحالة سيستغرق الوقت ستة شهور على الأقل نظرا للقواعد التي يتعين التقيد بها، وإما اللجوء إلى الأموال العراقية لشراء المعدات المطلوبة في غضون ثمانية أيام· ونظرا لأن مثل هذه المواقف يمكنها أن تتكرر في المستقبل فإنني أطالب الكونجرس الأميركي بأن يسن قوانين مناسبة تعفي المشاريع العراقية من القواعد التعاقدية المعمول بها عادة·
ولعل من الدروس المهمة التي خرجت بها من تجربتي في العراق ضرورة الاستعداد الجيد لجهود إعادة الإعمار في حالة ما بعد العمليات العسكرية· وبالرغم من أن الإدارة الأميركية بادرت بإنشاء مكاتب لإعادة الإعمار في وزارتي الخارجية والدفاع، إلا أنه يتعين تعميم تلك الجهود لتشمل الجهاز الحكومي، فضلا عن مشاركة القطاع الخاص بهدف التحرك السريع وتشكيل مجموعة من الخبراء للإشراف على بناء المنشآت الخاصة بالاتصالات، وإقامة محطات توليد الطاقة، بالإضافة إلى تحديث نظام الرعاية الصحية· وأخيرا أثير الكثير من الجدل حول رغبتي في إبقاء العدد الكافي من الجنود الأميركيين في العراق لضمان الأمن وإلحاق الهزيمة بالمتمردين· ورغم أن المسؤولين العسكريين عارضوا استقدام مزيد من الجنود لأن من شأن ذلك أن يؤدي، في نظرهم، إلى تأجيج العداء ضد الجهود الأميركية، إلا أنني لست مقتنعا بذلك· ومع كل تلك الأخطاء التي ذكرتها لا يمكن أبدا إغفال الدور الكبير لقوات التحالف تحت القيادة الأميركية في تحقيق التقدم الاقتصادي والسياسي الذي يتمتع به العراق·
سياسيا تقدم العراق بخطوات ثابتة إلى الأمام فقبل سنتين أعلن أبو مصعب الزرقاوي لأتباعه أنهم لن يجدوا لأنفسهم مكانا في ظل عراق ديمقراطي· وبعد سنة على ذلك صوت العراقيون لأول مرة في حياتهم، ثم صادقوا على دستور جديد، كما خرج معظم العراقيين خلال الشهر الماضي للتصويت على البرلمان الجديد الذي سيناقش الدستور وسيعالج الانشغالات المشروعة للسنة· أما على الصعيد الاقتصادي فقد استعاد العراق عقب تحريره عافيته الاقتصادية بعد التراجع الذي قدره البنك الدولي بحوالى 41% سنة ·2003 أما اليوم فإن العراق يستفيد من وجود بنك مركزي مستقل، وعملة جديدة مستقرة تؤشر على رجوع الثقة إلى الاقتصاد العراقي· هذا وقد أصبح الاقتصاد العراقي منفتحا على الاستثمارات الأجنبية، حيث تضاعف الدخل الفردي للمواطن العراقي حسب تقديرا