كغيرها من مناطق العالم، تواجه منطقة شرق آسيا جملة من التحديات في العام الجديد، وإن بدت هذه التحديات أقل خطورة وحدة بالمقارنة مع ما تواجهه مناطق أخرى· وإذا ما تجاوزنا ملفات مثل مكافحة الإرهاب والتطرف والتصدي للحركات والميليشيا الانفصالية وتقييد الانتشار النووي وتأمين إمدادات الطاقة بكميات كافية وأسعار معقولة للمحافظة على وتيرة النمو الاقتصادي المرتفع، فإن أول ما يستدعي الوقوف عنده هو التحدي المتمثل في خلق منطقة آسيوية للتجارة الحرة كخطوة أولى على الطريق نحو إقامة السوق الآسيوية المشتركة فالاتحاد الآسيوي على غرار الاتحاد الأوروبي·
ومما لا شك فيه أن التعامل مع هذا التحدي يستدعي أولا التعامل الجدي مع قضايا تندرج جميعها في خانة بناء الثقة وإزالة بقايا الرواسب التاريخية بين مجموعة من الدول الآسيوية، لا سيما في العلاقة بين اليابان من جهة وكل من الصين وكوريا الجنوبية من جهة ثانية· فهذه الرواسب التاريخية وما ينشأ عنها بين وقت وآخر من تصعيد متبادل بين أطرافها، يعيق الانطلاق السلس ويوتر الأجواء في المنطقة كلها وبشكل قد يطيح بما تم إنجازه من خطوات أو يعيق تواصله·
إلى ذلك تبرز مشكلة الارتقاء بمستويات بعض الدول الأقل تقدما وانفتاحا داخل المجموعة الآسيوية، ولاسيما بورما (ميانمار) وأقطار الهند الصينية، وذلك من أجل تضييق الهوة الفاصلة بينها وبين بقية أعضاء المجموعة·
ولو أن الأمر كان مقتصرا على الفجوة الاقتصادية والتنموية لهان الأمر، ولكانت المساعدات الاقتصادية والهبات والاستثناءات كفيلة بحل المشكلة خلال مدى زمني معين، على نحو ما اتبعته الجماعة الأوروبية مع البرتغال واليونان مثلا في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي· لكن المعضلة الأساسية تكمن في وجود أنظمة سياسية متخشبة تقاوم الإصلاح والانفتاح السياسي وتتفنن في الهروب مما يواجهها من استحقاقات عالمية· وأفضل مثال على هذا الشق هو بطبيعة الحال ما يقوم به النظام العسكري الديكتاتوري في بورما· ويمكن هنا أيضا أن نضيف الصراع الخفي على قيادة المنطقة· فالتعاون والتنسيق والتكامل بين دولها لا يلغي طموحات هذا الطرف أو ذاك في أن يكون له دور قيادي أو كلمة مسموعة توازي وزنها الإقليمي والدولي وقدراتها المميزة، خاصة في ظل وجود أكثر من عملاق في شرق آسيا·
على أنه من حسن حظ المنطقة أنها تمتلك منظومة راسخة للتعاون كمنظومة ''آسيان'' التي تضم في عضويتها عشر دول جنوب شرق آسيوية، إلى جانب منتدي ''آسيان + 3 '' الذي يضم دول ''آسيان'' العشر وكلا من اليابان والصين وكوريا الجنوبية ويعقد قمة كل عام بالتزامن مع قمة ''آسيان'' السنوية· وهناك منظومة أخرى جديدة في طور التبلور هي ''منتدى دول شرق آسيا'' الذي يضم دول طآسيان'' العشر إلى جانب الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند واستراليا ونيوزيلندا· وهذا يوفر أكثر من ساحة دائمة للحوار والنقاش وتقريب وجهات النظر بين الشركاء الآسيويين، وبما يمكنهم من تذويب الكثير من الخلافات وإيجاد الحلول الواقعية والهادئة للعديد من العقبات بروح المسؤولية الجماعية التي اشتهروا بها·
إن ''منتدى دول شرق آسيا'' الجديد الذي انبثق عن اجتماع قمة لزعماء الدول الستة عشر في العاصمة الماليزية في منتصف ديسمبر الماضي، هو في واقع الأمر مؤشر قوي و دليل عملي على إصرار الآسيويين على مواجهة تحديات القرن بالمزيد من الحوار والتعاون الهادف إلى مزيد من التكامل والترابط المفضي في نهاية المطاف إلى قيام الاتحاد الآسيوي، أو الفكرة التي بشر بها رئيس الحكومة الماليزية السابق مهاتير محمد قبل عقد ونصف العقد·
فدخول قوى شمال شرق آسيا الكبرى الثلاث في التجمع يكشف عن وجود رغبة جماعية في تعزيز عملية بناء الثقة والاستقرار في المنطقة على قاعدة منهجية، كما يوحي بوجود رؤية لدى أقطار جنوب شرق آسيا مفادها أن إدماج طوكيو وبكين في المخططات الجماعية الخاصة بالمنطقة هو أحد أفضل الوسائل لتخفيف المنافسة بينهما وبالتالي عدم الاضطرار يوما إلى الاصطفاف مع إحداهما ضد الأخرى·
وقبول عضوية الهند يعني توسعة حدود ومفهوم مصطلح ''شرق آسيا'' بغية إدماج العملاق الجنوب آسيوي وربطه بالعملاق الصيني لتستفيد دول المنطقة بهما ومنهما أمنيا واقتصاديا وتجاريا وعلميا· وإلحاق استراليا ونيوزيلندا الأوروبيتين ميراثا وتراثا بالتجمع معناه تجاوز الآسيويين للخصوصيات العرقية والثقافية واستعدادهما لمنح المنطقة وجها جديدا يتناغم مع تحولات العولمة، فضلا عن أنه مؤشر على تطور نوعي في مواقف اندونيسيا وماليزيا· فماليزيا في عهد زعيمها المتقاعد مهاتير محمد كانت ضد فكرة دمج هذين البلدين في أية مشاريع وحدوية آسيوية، ليس بسبب تراثهما الأوروبي فقط وإنما أيضا بسبب دورهما في الاستراتيجيات الغربية· أما اندونيسيا فتقدمت الصفوف في معارضة الفكرة على خلفية ما حدث بعد الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، حينما أعطت كانبيرا لنفسها الحق في التدخل في دول الجوار الآسيوي لضرب الإرهاب عب