يحتشد الجو حالياً بتظاهرة عالمية مضادة لنظرية التطور تحت اسم علمي جذاب هو ''التصميم الذكي''، ولكن العلم سيكون هو الحكم الذي يقول صدقاً وعدلاً في النهاية· وحتى نتمكن من الإحاطة بموضوع التطور، فلابد من السير باتجاه معاكس لمعرفة بدء خلق الأشياء على طريقة القرآن: ''قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة''· وهي حسب الفلسفة (الجينيالوجيا) أي تتبع جذور حدوث وولادة الأشياء إلى العالم، فحين نعرف المبتدأ نعرف المنتهى، وهو ما عنون به ابن خلدون كتابه في التاريخ ''كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر''؟
وبين عامي 2005 ونظرية دارون حوالي قرن ونصف، ولكن البدايات هي أبكر من ذلك؛ ففي عام 1794 تقدم ''إيراسموس داروين'' وهو جد دارون فكتب في عالم النبات (Zoonomia) حول احتمالية وجود شجرة مشتركة لكل الخلائق·
وفي عام ،1809 كتب ''جان بابتيست لا مارك'' حول فلسفة مملكة الحيوان، وأن القانون الذي يحكم كلاً من مملكة النبات والحيوان واحد هو التغير والصيرورة واستخدام العضو نمواً من ضموره، وأن هذا التبدل ينتقل بدوره مورثاً عبر السلالات، مثل مط الزرافة للعنق، فحيث اعتمدت الأكل من الأعالي امتد عنقها·
أما الصدمة الفعلية لثبات الطبيعة، فجاءت بعد رحلة ''البيجل'' التي قام بها داروين عام 1831 لمدة ثلاث سنوات ونصف، وجاءه وحي النظرية في أرخبيل ''غالاباجوس''، وجمع فيها أدلته على اشتقاق الخلائق من بعض، وأن البقاء للأفضل، فهذا هو قانون الانتخاب الطبيعي· ظهر هذا في كتابه ''أصل الأنواع'' عام ·1859 وكان الزلزال فقام المتكلم من الكنيسة الأنجليكانية ''صامويل ويل بيفورس'' عــام 1860 يناهض النظريـــة من خــــلال نصوص العهد القديم، وتصدى له بحدة ''توماس هكسلي'' في مناقشة علنية، وكان من أشد أنصار داروين المتحمسين له· وهو يذكر بما حدث لاحقاً؛ ففي عام 1925 قامت القيامة على ''جون سكوبس'' أستاذ البيولوجيا من مدينة ''دايتون'' فـــي مقاطعـــة ''تينيسي'' فيما عـــرف بـ''قضية القــــرود'' حيث نقلت محاكمته علـــــى الهــــواء مباشـــرة، وتابعهــــا الجمهور بشغــــف، وانتهت إلــــى تغريمه بـ100 دولار بسبب نشره نظريـــة التطـــور بين الطلبـــة·
في الواقع لقد تعرض نديم الجسر في كتابه ''قصة الإيمان'' لهذه المسألة، ونقل عن عبدالحميد الجسر وكذلك عن ابن خلدون، وأنا اطلعت على نفس الرأي عند ''ابن مسكويه'' في كتابه ''تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق''· من خلق الكائنات أطواراً واشتقاقها من بعضها بعضاً، بحيث يلحق كل أفق بالعتبة التي بعده، على حد تعبير ابن خلدون·
والتفريق مهم بين الكتب المنزلة التي جاءت هداية للعالمين، وبين البحث الأنثروبولوجي الذي يجب ألا تحصر فيه المفاهيم الدينية، فيقود إلى تشدد من طرف وإنكار من طرف آخر·
والدين يقين، والعلم بحث، والفلسفة شكوك لا تنتهي؛ فكلها جغرافيات مختلفة، وقضية الخلق قال عنها القرآن: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق)· وهو ما فعله داروين في سفينة ''البيجل'' التي بقي على ظهرها ثلاث سنوات ونصف سنة، ووضع كتاباً في 700 صفحة، وسجل ملاحظاته في 2000 صفحة، وجمع 1529 كائناً من الكائنات الغريبة من رحلته، ووضع مجموعة مكونة من 3907 بين جلد وعظمة، وبلغت مراسلاته 15000 أودع فيها شكوكه وتساؤلاته ومخاوفه وآماله ولمعاته العقلية، وحبس لسانه عن الانطلاق، فسكت بعد أن اختمرت الفكرة 17 سنة فأنضجها، ودعمها بالأدلة، حتى إذا استوت على سوقها قدمها للعالمين، فكان لها انفجار ودوي عبر العصور، وهذا يعطينا معنى الحكمة أن العبرة ليست بكثرة ما يكتب الإنسان؛ بل ماذا يكتب؟ و''اسبينوزا'' الفيلسوف الهولندي لم يترك خلفه سوى أربعة كتب، علق عليها المؤرخ الأميركي ''ديورانت''، أنه كان من الأجدى لنابليون أن يعيش لرسالة مثل هذا، فهي أنفع للجنس البشري من كل الحملات العسكرية المجنونة·