عندما يتعلق الأمر بقضايا الطاقة وقدرات الشعب الأميركي، فإن الرئيس جورج بوش ونائبه تشيني يعتبران أقل الأشخاص ثقة بمقدرة الشعب الأميركي على الإنجاز وابتكار الأفكار الجديدة· فلا أحد يشكك في قدرات الشعب الأميركي الخلاقة مثلما يفعل نائب الرئيس تشيني الذي ما برح يصر على أن ترشيد استهلاك الطاقة ما هو سوى ''فضيلة شخصية'' وليس ضرورة ملحة من ضرورات الأمن القومي، فضلا عن وجود رئيس بالكاد ينطق كلمة الترشيد· بيد أن الأميركيين لم ينتظروا تشجيع قادتهم، بل تولوا زمام الأمور من خلال مشروع هائل يجري إنشاؤه حالياً في تكساس من قبل شركة ''تكساس إنسترومنتس'' التي تقوم ببناء مصنع لإنتاج الشرائح الإلكترونية الدقيقة بالقرب من دالاس، لكن بمواصفات بيئية· وبإطلاقها هذا المشروع الرائد تسهم الشركة في خلق ما لا يقل عن 1000 وظيفة في مجال التكنولوجيا المتطورة لتصنيع رقاقات إلكترونية بتكلفة أقل ومن دون إلحاق الضرر بالبيئة·
ورغم أن شركة ''تكساس إنسترومنتس'' كانت دائما تتطلع إلى بناء مصنعها الجديد لإنتاج الرقائق الإلكترونية في منطقة دالاس حتى تبقى قريبة من مقرها الرئيسي وتضمن تدفق الأفكار بيسر وسلاسة، فإن أماكن أخرى في العالم مثل الصين وتايوان وسنغافورة كانت أكثر إغراءً للشركة بالنظر إلى الامتيازات التي تمنحها كالرواتب المتدنية والإعفاءات الضريبية· ومع ذلك وافقت الشركة على الاستقرار في دالاس شريطة نهوض مهندسي الشركة ومديريها بمواجهة التحدي التالي: التوصل إلى طريقة ما تمكن ''تكساس إنسترومنتس'' من إقامة مصنعها الجديد بتكلفة أقل بـ180 مليون دولار من تكلفة مصنعها الآخر الذي أقامته في أواخر التسعينيات بدالاس، حيث سيرفع ذلك من قدرتها التنافسية أمام المصانع العالمية الأخرى لإنتاج الرقائق الإلكترونية· ورغم تهيب مهندسي الشركة في البداية، فإنهم وافقوا على رفع التحدي وانكبوا على اجتراح الأفكار المبتكرة·
وكانت البداية من الطوابق الثلاثة التي يتطلبها المصنع لإنتاج الشرائح الإلكترونية بسبب عملية التصنيع المعقدة ومرورها بمراحل متعددة، حيث استطاع فريق مهندسي الشركة تقليص الطوابق الثلاثة إلى طابقين، وهو ما أدى إلى اختزال كبير في مساحة المصنع وادخار في الطاقة التي يستهلكها· وبالإضافة إلى ذلك قامت ''تكساس إنسترومنتس'' بالاستعانة بخدمات ''أموري لوفينز''، المهندس المعني بشؤون البيئة ورئيس ''معهد روكي ماونتنز'' الذي طلبت منه تصميم أجزاء من المصنع بطريقة ترشد من استهلاك الطاقة وتقلل من التكاليف· وعلاوة على ذلك تمت الاستعانة بالطاقة الشمسية للتقليل من استهلاك الوقود، وتم طلاء سقف المصنع باللون الأبيض لتجنب امتصاص أشعة الشمس وخفض درجة الحرارة· وقد تضافرت هذه الأفكار مع ابتكارات أخرى جديدة في مجال التكييف الطبيعي وحركة دوران الهواء في المصنع ما أدى في النهاية إلى التخلص من أحد المكيفات المركزية التي كانت تستهلك الكثير من الطاقة· كما تم وضع نظام يعيد تصنيع النفايات التي يعاد استخدامها مرة أخرى· وفي هذا السياق يقول ''بول ويستبروك'' الذي يشرف على تصميم المصنع الجديد لشركة ''تكساس إنسترومنتس'' وفق المعايير البيئية ''إننا عندما نتكلم عن المصانع التي تحترم البيئة فإننا لا نقصد بذلك إنتاج طاقة بديلة عبر الاعتماد على الرياح أو الشمس، بل نقصد ابتكار وسائل هندسية جديدة تقلل من استهلاك الوقود عن طريق إعادة استخدام النفايات وترشيد استهلاك الطاقة، وهو الطريق الذي أعتقد أنه سيؤدي إلى ثورة صناعية جديدة''· ويضيف ''ويستبروك'' أنه ''بالرغم من بعض الصعوبات التي واجهت المشروع في البداية، فإن النتيجة كانت جيدة، بحيث تم خفض تكلفة البناء بـ30% لكل قدم مربع بالمقارنة مع المصانع التقليدية·
كما تم خفض 20% من إجمالي التكاليف و35% من حجم استخدام المياه''· ولتشجيع ''تكساس إنسترومنتس'' على بناء المزيد من المصانع في المنطقة قامت جامعة دالاس، بالإضافة إلى السلطات المحلية والقطاع الخاص، برصد 300 مليون دولار على مدى عشر سنوات لتحسين دراسة العلوم والهندسة في جامعة دالاس من أجل رفد الشركة بالعمالة الماهرة· وفي هذا الإطار صرحت ''شونا ساويل''، نائبة رئيس الشركة قائلة ''نحن فخورون في شركة تكساس إنسترومنتس بما قمنا به لنثبت للعالم إمكانية إقامة مصنع لا يضر بالبيئة ولا يفرط في استهلاك الطاقة، لكنه في الوقت نفسه يقلل من التكاليف ويجني أرباحا جيدة''· واستطردت قائلة إنه ''مازال بإمكان أميركا خلق وظائف في مجال التكنولوجيا المتطورة· وأعتقد أنه يجب في البداية تحديد أهداف مستحيلة، لأن أشياء رائعة تنجز عندما يتعاون الأشخاص على تحقيق الأهداف المستحيلة''· وهي الأهداف ذاتها التي تحققت في عهد الرئيس كنيدي عندما دعا إلى إرسال الإنسان إلى سطح القمر· فهو لم يكن يعرف كيف سيتأتى ذلك على وجه الدقة، لكنه كان يملك الثقة الكافية بقدرات الشعب الأميركي، وكانت لديه رؤية واضحة مكنته في النهاية من مشاهدة أول رجل يمشي فوق القمر حتى قبل اغتياله