كان منظراً مهيباً ذاك الذي رافق جنازة الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح يوم الأحد الماضي، أعداد هائلة من البشر من كل الأعمار والفئات، رجالا ونساء وشيباً وشباناً خرجوا بعفوية وتلقائية لإلقاء النظرة الأخيرة على جنازة الرجل الذي قاد الكويت قرابة ثلاثة عقود، كان الجميع يدرك أن الخروج في الجنازة لن يعيد الحياة إليها، فالموت هو نهاية رحلة الحياة، ولكن الجميع آثر أن يعبر لقائده عن حزنه بفقدانه، وأن يسير معه في رحلته الأخيرة إلى مرقده· كنت أحد المشاركين في تشييع الجنازة، وأعترف بأني فوجئت بالأعداد الهائلة التي سبقتني رغم حرصي على التواجد مبكراً قبل إذاعة موعد الدفن رسمياً· كان منظراً محزناً، ولكنه كان معبراً أيما تعبير، عن خالص الشكر والتقدير من شعب يودع أميره إلى مثواه الأخير، لقد اختزل المنظر كل عبارات الثناء والمديح والهتافات، وتجاوز صيحات ''بالروح بالدم نفديك···''، وقهقه المنظر ملء شدقيه على شعارات ''القائد الضرورة الأبدي الخالد المخلد''·
عادت بي الذاكرة إلى جنازات زعماء الخليج الذين توفاهم الله على مدى السنوات القليلة الماضية: الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين، ثم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان -رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، ثم الملك فهد بن عبدالعزيز -ملك المملكة العربية السعودية، والشيخ مكتوم بن راشد آل مكتوم -حاكم دبي، وأخيرا -وحتما لن يكون آخرا- الشيخ جابر الأحمد الصباح -أمير دولة الكويت رحمهم الله جميعاً، فاستذكرت بساطة الدفن لكل أولئك الذين حكموا بلادهم سنين طويلة، ومع هذا حزنت عليهم شعوبهم بتلقائية، ولا تزال تتذكرهم بحب ووفاء نادر·
كانت جنائزهم بسيطة، وقبورهم مع عامة شعوبهم، تماما مثلما قضوا سنوات حكمهم بين الناس، ووروا الثرى جميعا بين عامة الناس، وقبورهم تشبه قبور الناس، عرفوا جميعا بالبساطة والتواضع، والرأفة بمواطنيهم، لم يكونوا أصحاب لغط وعبارات مطاطة وتلون في المواقف، صدقوا مع الناس، فأحبوهم، رأفوا بالناس، فأخلصوا لهم، ورحموا الناس، فلقوا الوفاء منهم··
لم يكن الفقيد جابر الأحمد كثير السفر والترحال، ولا يحب السفر إلا للعمل مضطراً، عرف بالالتصاق بالأرض وملاصقة الناس· قال لي ذات يوم: ''لا أدري لماذا يهرب الناس من الحر في الصيف؟ فالحر شهر أو شهران، ويمكن التعايش معه كأحد صفات بلادنا وجزء لا يتجزأ من مناخها، والحمد لله الذي لم يجعل من الزلازل والأعاصير والفيضانات ميزة مناخية لبلادنا''·
كان جابر الأحمد مثالا للتواضع والعمل دون ضجيج، وكان ممن رسموا وخططوا لملامح الكويت الحديثة منذ أن كان في ريعان شبابه، فهو مهندس وضعها المالي المتميز، وهو واضع لبنات تأمين مستقبل أجيالها·
كنت أستعرض منظر الجنائز في ذاكرتي، وأنا أشارك في وداع جابر الخير، وراعني منظر لم يكن معهوداً في مقابرنا في منطقة الخليج، وهو كثرة عدد النساء اللاتي شاركن في توديع الجنازة، فلقد جاءت النسوة بأعداد فاقت المعهود تعبيراً عن امتنان خاص لجابر الأحمد الذي بادر بإعطائهن حقوقهن، واستوزر امرأة لأول مرة في تاريخ الكويت اعترافاً بإنسانيتها ودورها في المجتمع·
حينما كنت ألتقي الفقيد الراحل بحكم عملي وزيراً قبل سنوات، كنت أستأذنه في كل مرة بالخروج بعد انتهاء اللقاء: ''استأذن طال عمرك!!''، وكان يسمح لي مودعاً بقوله: ''غالي·· حياك الله''·
غادر جابر الأحمد دون استئذان، ورحل غالياً، وسيبقى في قلوب الكويتيين ومحبيه غالياً إلى الأبد·
إلى جنات الخلد يا جابر!! وداعاً أيها الغالي!