وصلتني رسالة على عنواني في الإمارات من شخص لم يذيل رسالته باسم، ولم يترك لي عنواناً فيها أجيب من خلاله على تساؤله العجيب الذي طرحه في الرسالة، بعد أن أسهب في لومي على الابتعاد عن الساحة الإماراتية جملة وتفصيلاً، وأنا كما يقول، معروف وسط جيلي وأقراني بحبي لوطني والتفاني في خدمته· لقد كانت رسالة صاحبنا الذي يقول إنه يعرفني وأعرفه خير المعرفة، مطولة وتحمل بين سطورها مزيجاً من المديح القائم على الماضي والانتقاد القائم على الحاضر لشخصي المبتعد عن هموم الساحة اليومية· وكل ذلك بالتأكيد ليس مهماً، ولكن المهم هو سؤاله المحدد الذي طرحه في نهاية رسالته ويقول: ''لماذا بربك أنت مبتعد عن الإسهام في قضايا الإمارات فيما تكتبه في الصحافة المقروءة؟ ولماذا ابتعدت نهائياً عن البرامج التليفزيونية؟''·
الواقع أنه ليس لدي إجابة محددة على السؤال المزدوج المطروح، سوى القول إنه لا يمكنني الابتعاد عن شؤون الإمارات فيما أكتبه وأقوله وأفعله، وأنا حقيقة لم أبتعد عن ذلك، ولكن للضرورة أحكامها، فأنا بعيد عن الوطن بالجسد ولكني لست بعيداً عنه بالروح، فهي محلقة في سمائه في كل لحظة· وعلى أية حال دعوني أسأل صاحبنا سؤالاً فلسفياً عاماً هو: لماذا درج البشر في الابتعاد عن هموم الحياة اليومية لمجتمعاتهم؟
يعتبر تلاشي المجتمع التقليدي الذي يولد فيه الإنسان ويترعرع ويعيش، ذا دور كبير في اختفاء المثقفين من الساحة· وفي الإمارات نرى اليوم مجتمعاً يختلف عن سابقه ويتصف بالاتساع، وهو متماسك مع بعضه بعضاً بنظام عام من الأخلاق العارضة والفكر الجديد· وبهذا الصدد فإن من الأمور الملفتة للانتباه كيف تغير البعض من فكر معين حملوه لمدة طويلة، رأساً على عقب، لكي يلجأوا إلى استخدام مقولات وقيم دينية في شؤون السياسة والمجتمع في إطار سعيهم إلى تحقيق الطموحات كما يقولون·
بالنسبة لي، فإن القضية بالتأكيد ليست كذلك، وربما يصح القول إن الجيل الذي سبق في الإمارات كان هو الجيل الأخير الذي استطاع فيه الشخص العادي أن يفكر مكوناً لنفسه صورة متماسكة حول المجتمع ككل وموقعه الذاتي فيه· أما في المجتمع الغني بالموارد والعوائد النفطية الذي يعيش في وسط تغيرات تكنولوجية وقيمية مادية متسارعة، ومحاط كما نحن محاطون ومحاصرون كبشر من قبل جوقة من المعلنين والإعلاميين الأجراء ذوي الكفاءة العالية، فإن نظرة التماسك هذه والرغبة في الإسهام الوطني الصادق ربما تكون قد تلاشت·
لذلك فإنه في عالم اليوم لم تعد الأمور ثابتة ومؤكدة تماماً كما كانت تبدو في السابق، ولم يعد العمل الوطني كما هو، فهو لم يعد فريداً أو مشهوداً له مهما كان صاحبه الذي يؤديه متميزاً· وربما في هذا السياق لم يعد من الممكن ظهور مخلصين وطنيين عباقرة في عالم اليوم· ولأننا نعيش في مجتمع يتغير بسرعة كبيرة، فإن تطور صيغ العمل الوطني باتت مفاجئة في ظهورها ومسيرتها وتوجهاتها، وربما في أهدافها أيضاً، إلى درجة أن الوطنيين المحدثين يستطيعون القيام بأعمال آنية تصلح للحظة القيام بها فقط وليس لكي تستمر وتصنع المستقبل·
وبعد كل هذا فإن المستقبل بالنسبة لشعب الإمارات لم يعد هو نفسه على الصعيد الوطني، كما كان في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين، فالاتحاد الآن حقيقة قائمة، ولسنا قلقين من وجودها واستمرارها كامتداد للحاضر في عمر المستقبل، وإن كان يتوجب علينا المحافظة والعض عليه بالنواجذ· وعودة إلى السؤال الذي طرحته حول لماذا يبتعد البشر عن هموم الحياة اليومية لمجتمعاتهم، فأجيب بأنهم يفعلون ذلك عندما يشعرون بأنهم لا حول لهم ولا قوة ويقعون خارج نطاق دائرة الفعل· ويصرون على الانسحاب عندما لا يعودون يشعرون بأنهم ذوو علاقة بالأحداث الجارية· إن البشر يتعودون على الحياة خارج العمليات الجارية عندما يتوقفون عن الاعتقاد بأنها ذات علاقة بهم· فهل أجبت على سؤالك يا صاحبي إجابة شافية؟ أرجو ذلك··· والعلم عند الله·