شهدت العقود القليلة الماضية تزايداً مطرداً في أهمية الأمراض الوراثية، على صعيد الممارسات الطبية اليومية، وضمن خطط وسياسات توفير الرعاية الصحية· ويأتي تزايد أهمية الأمراض الوراثية في عالم الطب نتيجة أسباب عديدة، منها: تواصل اكتشاف أمراض وراثية جديدة لم تكن معروفة من قبل مع زيادة الإدراك بمدى الانتشار الواسع لهذه الأمراض بين الأفراد والمجتمعات، بالإضافة إلى تجدد الآمال بإمكانية توفر أساليب علاج فعالة في المستقبل، تعتمد على الاختراقات الحديثة في مجال الهندسة الوراثية، ويمكنها تحقيق الشفاء التام· فعلى صعيد تواصل اكتشاف أمراض وراثية جديدة، نجد أن المراجع الطبية أصبحت تتضمن حالياً أكثر من سبعمائة وثلاثين مرضاً وراثياً مختلفاً· هذه الأمراض تؤثر جميعها بشكل أو بآخر، على أجزاء الجسم البشري المختلفة من خلايا وأنسجة وأعضاء، إلى درجة يندر معها وجود خلية أو نسيج أو عضو بشري، لا يمكن أن يصاب بنوع أو آخر من أنواع الأمراض الوراثية· أما على صعيد مدى الانتشار، فيكفي أن نسترجع أسماء بعض الأمراض، مثل الثلاسيميا، وعمى الألوان، وسيولة الدم أو الهيموفيليا، ومنظومة ''داون'' أو العته المنغولي، والتليف الحوصلي الذي يصيب الرئتين، وغيرها الكثير، كي ندرك بسهولة مدى فداحة الثمن الذي يدفعه أفراد الجنس البشري من جراء الإصابة بالأمراض الوراثية· ولكن للأسف، وعلى عكس ما يتوفر للعاملين في المجال الطبي، وللقائمين على اتخاذ القرار الصحي السياسي في الدول الغربية من قواعد بيانات تفصيلية، عن نوعية ومدى ودرجة انتشار الأمراض الوراثية بين مجتمعاتهم، نجد أن الوضع يختلف تماماً في الدول النامية· ففي هذه الدول، التي تعاني من فقر مدقع، أو ترزح تحت وطأة الأمراض المعدية المتوطنة، أو تفتقد للإرادة السياسية والنظرة الطبية المستقبلية، نجد أن هدف إنشاء خدمات طبية وراثية معتمدة على قاعدة من البيانات التفصيلية، لم يكن أبدا على قائمة الأولويات الصحية في تلك الدول·
هذا الوضع، كان ينطبق أيضاً إلى حد كبير على الدول الخليجية والعربية، إلى أن تغير قبل أعوام قليلة مضت، حيث انطلق المركز العربي للدراسات الجينية ,(Center for Arab Genomic Studies) في الخامس والعشرين من شهر يونيو عام ·2003 هذا النوع من المراكز يحتل أهمية خاصة، بسبب ما تتمتع به المجتمعات العربية من خصائص مشتركة، تميزها إلى حد ما عن المجتمعات البشرية الأخرى عندما يتعلق الأمر بالأمراض الوراثية· وربما كان من أهم هذه الخصائص المشتركة والتي تضع أفراد المجتمعات العربية في موقف خاص بالنسبة للأمراض الوراثية، هي ظاهرة زواج الأقارب· فهذه الظاهرة المترسخة بقوة في مجتمعاتنا -سواء تلك الموجودة ضمن الحدود الجغرافية للعالم العربي أو تلك المقيمة في دول المهجر- تعرض نسلنا وذريتنا لخطر الإصابة بالأمراض الوراثية بشكل خاص· فالإحصائيات تشير إلى أن متوسط نسبة زواج الأقارب في الدول العربية، يبلغ ما بين أربعين إلى خمسين في المئة· وترتفع هذه النسبة لتصل إلى ستين في المئة في بعض الدول، كما هو الحال في دولة الإمارات والسعودية والسودان وموريتانيا والعراق· ومما يزيد الوضع سوءا في زواج الأقارب بين سكان الدول العربية، هو ارتفاع نسبة الزواج من أقارب الدرجة الأولى، كما هو الوضع في الأردن والسعودية والكويت والعراق والبحرين ومصر· ومن المعروف أن هذه العادات تعود جذورها إلى المفاهيم الثقافية المحلية، الهادفة إلى الحفاظ على ممتلكات العائلة أو العشيرة، أو ربما بسبب يسر الزواج من الأقارب كنتيجة لتقارب المستويين الاجتماعي والثقافي· أما بالنسبة للعقيدة الإسلامية، فنجد أن الموقف مختلف تماماً، بل نجده داعياً بشكل واضح إلى التباعد والتنائي عند اختيار الزوج أو الزوجة· فالله سبحانه وتعالى يقول في الآية الكريمة ''يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم''· أما الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول في الحديث الصحيح ''شرّقوا وغرّبوا فإن العرق دسّاس''· وبخلاف الزواج من الأقارب، نجد أن المنطقة تتمتع أيضا بعادات ثقافية أخرى، تزيد من احتمالات الإصابة بالأمراض الوراثية بين أبنائها، مثل عادات الزواج المبكر أو الاستمرار في الإنجاب لحين سن متأخرة· فالمعروف والمثبت علمياً، أن تقدم الأبوين -وخصوصا الأم- في العمر عند الإنجاب، يزيد من احتمالات إصابة المولود بالأمراض الوراثية، مثل منظومة ''داون'' أو العته المنغولي·
وعلى الرغم من أن المركز العربي للدراسات الجينية يعتبر قفزة نوعية على صعيد جمع البيانات الصحية المتعلقة بالدولة والمنطقة، وخطوة مهمة على طريق دراسة الأمراض والمشاكل الصحية المحلية والإقليمية، فإنه لا زال ينقصه تحويل الأرقام والإحصائيات إلى واقع عملي ملموس، يترك بصمته على الوضع الصحي لهذه الدول· فعلى سبيل المثال، رغم تواتر الدراسات الواحدة تلو الأخرى عن مخاطر الزواج من الأقارب، سواء من المركز أو غيره من الجهات المعني