مرة أخرى ، تأخر الدور العربي كثيراً في أفريقيا، مثلما تأخر من قبل في العراق، وها هي النتائج تقترب من أن تكون واحدة· هكذا الموقف بالنسبة للسودان، والتنظيم الإقليمي المعني وهو الاتحاد الأفريقي· ولا أحد يتحرك بإيجابية كافية لإنقاذ الوطن السوداني من أن يصبح قطراً محتلاً، بقوات تحالف أو قوات دولية، كما لا أحد ينقذ العمل العربي-الأفريقي من حالة العجز في أديس أبابا أو السلبية في دوائر الجامعة العربية·
الموقف السوداني يتعرض من الداخل لحالة تكاد تكون فريدة في اضطرابها ونتائجها المحتملة، فغرب السودان تُناقش أحواله، وتمضي مفاوضاته بالسلب في ''أبوجا''، وشرق السودان تناقش أحواله مع أطراف أخرى متشددة بدورها في ''أسمرة'' أو العواصم الأوروبية، وجنوب السودان، يشهد القلاقل أمام التنفيذ النهائي لعناصر اتفاقية الجنوب التي يُحتفى بمرور عام على توقيعها، بينما تتحرك بعض عناصر الرفض لها مؤخراً، وإنْ لأسباب تبدو -حتى الآن- محدودة الأثر·
ولم نشهد مثل هذه الحالة إلا في أسوأ الأوضاع الأفريقية مثل سيراليون وبشكل محــدود فــي الكونغـــو، لأن معظـــم الصراعـــات -وكلها مريرة على أي حال- كانت بين طرفين ويمكن تحديد المسؤولين فيها والتعامل معها على نحو ما تم في ليبيريا أو رواندا أو ما يتم في ساحل العاج··· إلخ، وتبدو المشكلة أكثر قساوة عندما تبدو الحكومة المركزية أو ''الاتحادية'' في الخرطوم وكأنها مستقرة أو في الحالة التقليدية، لـ''معالجة الموقف''! وكم كنا جميعاً نأمل أن تكون الأحوال عادية فعلاً أو محدودة في أبعادها ومصائرها، لنهنئ الشعب السوداني وحكومته في مثل هذه الظروف بالعيد الخمسين للاستقلال ومرور عام على اتفاقات الاستقرار· ولكن الرياح لا تمضي بما نشتهي أفارقة وعرباً؛ فالاستقلال تتهدده التدخلات الخارجية المقترحة لمعالجة الموقف في دارفور، والاستقرار مهدد، بعدم استقرار الوفاق، تماماً في الجنوب، أو كاملاً مع أطراف المعارضة السودانية، فضلاً عن اضطراب الموقف نفسه في غرب وشرق السودان· وفي هذه الظروف يستقبل السودان اليوم مؤتمر القمة الأفريقية (يناير 2006) ثم يليه مؤتمر القمة العربية في مارس 2006 أيضاً· ثمة أهمية كبيرة للسودان في التقاطعات المتعددة للعروبة والأفريقية، وتقاطعات حوض النيل، وتقاطعات غرب القارة وصحرائها الغربية المتفجرة بالنزاعات حالياً مع شرق القارة وتطورات القرن الأفريقي الساخنة· وفي هذه التقاطعات عاش الشعب السوداني مأساة الجنوب قرابة نصف القرن، وأعقب ذلك استهلال القرن الحادي والعشرين بتفجر الموقف في دارفور، ورافقه أو أعقبه الموقف في شرق السودان، وأدت دارفور إلى التوتر مع تشاد، كما أدى الشرق والجنوب قبله مبكراً إلى التوتر مع إريتريا وغيرها· وفي كل هذه المآسي، راح الحكم السوداني بمشروعه الحضاري تارة، أو مشروعه التوحيدي تارة أخرى، يتحرك وسط أجواء أفريقية وعربية غير قابلة للمعاونة، ومع قوى سياسية داخلية غير قابلة لتحمل الانفراد بالسلطة مع هذا الجناح أو ذاك من ذوي السلطان··· حتى وصلنا إلى ما وصل إليه الموقف، مع الخارج والداخل على حد سواء·
ولندع أمر الداخل الآن، فصيغ الوفاق الوطني أو ''الاتفاق'' المؤقت على الأقل طرحت في نيفاشا، وتعتبر قابلة للنجاح، كما يمكن وفق عملية تصالح حقيقية أن تنجح بعض الصيغ في ''أبوجا''، وربما يطرح مثلها لأهل ''البجا'' والشرق عموماً· لكن يبقى الخطر الخارجي الذي تسلل فجأة إلى عناصر الموقف في غرب السودان ليلمح إلى خطر تعرض هذا الوطن لـ''التدويل العسكري'' مثلما حدث مع العراق، أو ما يحتمل حدوثه في سوريا ولبنان· ويكاد ''النظام العربي'' يكون متفرجاً في كل هذه الحالات، أما ''النظام الأفريقي''، فإنه سرعان ما راح يسلم في حالة السودان أكثر من أية حالة أخرى سابقة باستدعاء ''القوات الدولية'' لأنه عاجز عن أداء دوره لـ''أسباب مالية''!
وإذا ما كان هذا هو ''السبب'' في استدعاء ''الأمم المتحدة''، فإن تلك الأخيرة نفسها سرعان ما ستعلن عجزها المالي أيضاً ليتحول التدخل إلى ''قوة حلفاء'' نعرف مقدماً من سيديرها ويمولها ليصل إلى العمق السوداني الذي تعتبر ثروته البترولية هي مبدؤه ومنتهاه· وقد بدت تصريحات ''كوفي عنان'' استفزازية لعدم التزامه بدوره المحايد في مثل هذه الأمور، رغبة منه في مواصلة موقفه لاسترضاء الولايات المتحدة· وقد بدأت إجراءات هذا المخطط المثير في بيانات المبعوثين الدوليين، ومندوبي الدول المانحة، والمنظمات الحقوقية داعية لوجود ''القوات الدولية'' متهمة بالتدريج ''الحكومة السودانية'' وحدها بالتقصير والعودة إلى العنف مع أهالي إقليم دارفور، ورغم سابق اتهامهم لتنظيمات المتمردين بمثل هذا السلوك، بل إن تلكؤ وصول المساعدات بسبب اتهام الطرفين كان أحد أسباب تدهور الموقف الذي تحملت الحكومة وحدها مسؤوليته في النهاية· وقد التقط الطامعون في التدخل الخيط بالتصريحات العنيفة من المسؤولين الأميركيين والفرنسيين عقب تصريحات مسؤولي الأمم المتحدة· وكاد