فاز ''المحافظون'' الكنديون في انتخابات مجلس ''العموم'' وعادوا ليشكلوا حكومة أقلية هشة (حصلوا على 124 معقداً من مقاعد المجلس الـ308)· عودة ''المحافظين'' إلى الحكم -الذي أبعدوا عنه أكثر من خمسة عشر عاماً انفرد فيها الأحرار الكنديون بالسلطة- تشكل منعطفاً شديد الوقع على الكنديين· حزب ''المحافظين'' الفائز بقيادة ''ستيفن هاربر'' ليس هو حزب ''المحافظين'' التقدميين الذي كان نجم عصره الماضي، إنه حصيلة اندماج ما تبقى من ''المحافظين'' التاريخيين بعد تشتت حزبهم، وحزب التحالف الكندي المتقوقع في غرب كندا وأريافها والذي يوصف بحق -أنه حزب ''اليمين'' الديني الكندي الجديد- بكل ما تحمل هذه الصفات من معان سياسية تخص ''الجمهوريين'' الأميركيين خاصة في عهدي ريجان وبوش الإبن·
الكنديون باتوا ليلة الاثنين-الثلاثاء وأيديهم على قلوبهم، وخاصة المهاجرين منهم واللاجئين والعرب والمسلمين، وبالأخص أيضاً جماعات حقوق الإنسان وناشطي حركة السلام المعادية لـ''الحروب الأميركية''··· لماذا؟ لأن سياسات الزعيم ''المحافظ الجديد'' ومواقفه القديمة تجاه القضايا الاجتماعية المحلية (رعاية الطفولة- حقوق الأهالي الأصليين- الموقف من قضايا المرأة- التأمين والرعاية الصحية- الضرائب المخففة على الأغنياء والعسيرة على الفقراء·· الخ) وسياساته الخارجية والعسكرية (الموقف من حرب العراق- المعاهدة الأميركية لتسليح الفضاء صاروخياً- الموقف من معاهدة ''كيوتو'' لخفض تلوث البيئة·· الخ) هذه المواقف تثير قلقهم وستثير بعد حين قلق الشعوب والدول التي رأت في كندا نصيراً للسلم العالمي (قوات حفظ السلام الدولية) ومحامياً نشطاً في الدفاع عن حقوق فقراء العالم، وبخاصة في أفريقيا (مبادرة رئيس الوزراء الأسبق جان كريتيان المسماة الشراكة مع أفريقيا)· نفس الشيء بالنسبة للعرب الذين تابعوا المواقف الكندية التي حاولت بقدر المستطاع أن تقف موقفاً عادلاً وصادقاً مع الفلسطينيين·
وستكون الخرطوم -بعد قليل- أكثر العرب والأفارقة قلقاً، فبرغم كل شيء، فإن كندا حتى الأمس ظلت تلعب دوراً كبيراً إنسانيا ومادياً في (عموم) الدراما السودانية، وهو الدور الذي أصبح أكثر وضوحاً في دارفور··· فهنالك اليوم (التزامات معلقة على ذمة كندا)، صحيح أن الحكومة الجديدة لن تنسحب مباشرة غداً من هذه الالتزامات المالية والعسكرية السلمية، لكن تغير المقاعد سيؤثر (حيث سيفقد السودان مسؤولين من حكومة الأحرار تولوا الملف السوداني ووضعوا فيه إلى جانب مهماتهم الرسمية بصماتهم الإنسانية والسياسية)· من المبكر القول ماذا سيصنع هاربر وحكومته الأقلية بكندا داخلياً وخارجياً، لكن المؤكد أنه سيحاول أن يمشي بحذر شديد على هذا الحبل المشدود بين ''يمين'' مسيحي شديد التطرف واسع ''الطموح الأعوج'' ورأي عام هو يعلم أنه لم يمنحه ثقته، ولكن اللعبة الدستورية البرلمانية هيأت له أن يكون رئيساً للوزراء، بينما أغلبية الناخبين منحت أصواتها لمعارضيه ''الأحرار'' والحزب ''الديمقراطي'' وحزب ''كيبك'' (الانفصالي)!
نعم صعد ''اليمين'' المسيحي إلى السلطة في كندا لأسباب متعددة، ليس أولها ولا آخرها هذه الموجة ''اليمينية'' الدينية، التي سادت مؤخراً أميركا الشمالية وبعض بلدان أوروبا القديمة والجديدة· لكنني أعتقد أن صعود ''المحافظين'' هنا له علاقة مباشرة بتدهور الحزب بقيادة رئيس الوزراء السابق ''بول مارتن''؛ فهذا الرجل السياسي المهذب ووزير المالية الناجح جداً وفريقه من (الخبراء الاستراتيجيين)، قد فشلوا أولاً في إعادة جسور الثقة بينهم وبين قواعد حزبهم وناشطيه الأوفياء الذين تربوا وتدربوا على عهود ترودو وكريتيان، بل الشرخ الكبير الذي أحدثته معاركهم الداخلية ضد كل الاتجاهات الليبرالية الأخرى، هو الذي أفقدهم دوائر ليبرالية مضمونة ليس في كيبك وحدها، ولكن حتى في أونتاريو وكولومبيا البريطانية· فهذا الشعب الكندي الواعي سياسياً، والذي تسوده روح التقدمية الليبرالية بمعناها الواسع، قرر على ما يبدو أن يعاقب حزبه بقيادة بول مارتن، ولكنه لن يكافئ ''اليمين'' المسيحي الجديد، ولن يتقبل برامجه الاجتماعية والسياسية لزمن طويل·