نشعر جميعاً في فترات متفرقة من حياتنا بنوبات من الحزن والهم، إما نتيجة وقوع أحداث شخصية مؤسفة، أو من جراء تعرضنا لإحباطات شديدة، أو بسبب فقداننا لشيء أو شخص عزيز علينا· ورغم أن هذا الشعور هو شعور إنساني طبيعي، إلا أنه إذا ما تسبب في إحداث اضطراب عميق في قدرتنا على القيام بنشاطاتنا الاجتماعية، أو انتقص من طاقتنا على تأديتنا لوظائفنا ومهام حياتنا اليومية، ولفترة ليست بالقصيرة، يتحول الموقف حينها إلى وضع مرضي يتطلب الرعاية والعلاج· هذه التفرقة بين الشعور الطبيعي بالحزن والهم، وبين الشعور المرضي، تعتبر محورا أساسيا في الممارسات اليومية للطب النفســـي، والذي يطلق صفــــة الاكتئاب السريري أو الإكلينيكي (Clinical Depression) على الشعور الاكتئابي المرضي، مقارنة بالاكتئاب الطبيعي· ويحتل الاكتئاب المرضي مكانة خاصة بين الأمراض النفسية المختلفة، بسبب انتشاره الواسع بين أفراد الجنس البشري· حيث يقدر أن 16% من البشر سيصابون في فترة من فترات حياتهم بالاكتئاب المرضي، وهو ما يمكن ترجمته إلى الملايين، وربما عشرات الملايين من البشر المصابين بالاكتئاب· وتختلف نسبة انتشار الاكتئاب بين المجتمعات، وتتباين أيضا حسب الجنس والفئة العمرية· ففي الولايات المتحدة مثلا، وحسب الإحصائيات الصادرة عن المعهد القومي للصحة العقلية، نجد أن الاكتئاب يصيب 6,5% من النساء الأميركيات، بينما لا تتعدى نسبته بين الرجال الأميركيين 3,3%· أما في كندا، فيعاني 5% من السكان من الاكتئاب المرضي· وفي بريطانيا يصاب شخص واحد من بين كل خمسة أشخاص بالاكتئاب المرضي في مرحلة ما من حياته، وهو ما يكلف الاقتصاد البريطاني مليارات الجنيهات سنوياً، في شكل أيام عمل ضائعة ونفقات علاج ورعاية طبية وتعويضات من الضمان الاجتماعي· ولكن على الرغم من هذا الانتشار الواسع للإصابة بالاكتئاب المرضي، فلا زال الطب الحديث عاجزا عن تحديد سبب مباشر خلف تلك الإصابات· وما يتوفر لنا حاليا لا يزيد على قائمة من العوامل والظروف، يعتقد بوجود علاقة بينها وبين الاكتئاب المرضي· فمثلا يعتقد البعض بوجود عامل وراثي خلف الإصابة بالاكتئاب المرضي، وهو ما يعني أن هذا الاعتلال قد يصيب أحيانا عدة أجيال من نفس العائلة· أما البعض الآخر فيؤمن بأن الإصابة بالاكتئاب المرضي، هي نتيجة اختلال في توازن المواد الكيميائية (Neurotransmitters) المسؤولة عن التواصل والتخاطب بين الخلايا العصبية في المخ· هذه النظرية الأخيرة هي الأساس خلف الكثير من العقاقير الحديثة المضادة للاكتئاب، والتي تهدف جميعها إلى زيادة كمية الموصلات العصبية الكيميائية مثل مادة السيروتنين· ويلقي جزء من هذا الفريق باللوم على مادة أخرى، هي هرمون الميلاتونين، الذي يزداد إفرازه من الجسم في أثناء ساعات الليل· ويدعم هؤلاء نظريتهم بأن حالة الاكتئاب المعروفة بالاختلال العاطفي الفصلي ,(seasonal affective disorder) تزداد معدلاتها بشكل واضح في أثناء فصل الشتاء، حيث تقصر ساعات النهار وتقل كمية الضوء الطبيعي الذي يتعرض له الشخص في اليوم الواحد· وبالفعل أثبتت الدراسات والممارسات العيادية أن هؤلاء المرضى يمكن تخفيف حدة أعراض مرضهم بشكل ملحوظ، من خلال تعريضهم لضوء قوي لعدة ساعات، فيما يعرف بالعلاج بالضوء .(Phototherapy)
وبخلاف الأسباب الوراثية والكيميائية للاكتئاب المرضي، يلقي البعض باللوم على الإصابة بأمراض أخرى يكون الاكتئاب مصاحبا لها، أو على شرب الكحوليات وتعاطي المخدرات، أو حتى على الحياة مع شخص آخر مصاب بالاكتئاب· هذه القائمة الطويلة من النظريات الساعية لتفسير سبب الإصابة بالاكتئاب، والتي يحمل كل منها في طياته جزءا من الحقيقة، تدفعنا للاستنتاج بأن الكثير من حالات الاكتئاب ربما كان لا ينتج عن سبب واحد بعينه· بل الأرجح كونه عملية نفسية بالغة التعقيد، كما هو الحال مع بقية العمليات العقلية والحالات النفسية الإنسانية التي لا يمكن ردها إلى سبب واحد فقط· فمثلا قد يصيب الاكتئاب البعض نتيجة وجود ميل وراثي أو اختلال جيني بين أفراد العائلة، بينما قد يصيب آخرين بسبب وجود اختلال في السيروتنين أو الميلاتونين أو خلافه· وربما أيضا أن يكون الاكتئاب المرضي هو نتاج تضافر مجموعة من العوامل المختلفة· فمثلا قد تؤدي الظروف الاقتصادية والاجتماعية للإصابة بالاكتئاب لدى شخص، تنخفض لديه نسبة الموصلات العصبية الكيميائية في خلايا مخه، ومصاب أساسا باختلال وراثي يؤهله للسقوط ضحية للاكتئاب· ومما يزيد الأمر تعقيدا، تواتر الأبحاث والدراسات، التي يكشف بعضها عن عوامل وظروف جديدة خارج القائمة المعتادة، تؤثر في الحالة المزاجية النفسية، وتؤدي أحيانا إلى الإصابة بالاكتئاب· وآخر تلك الدراسات، ربما كان التقرير المعروف بتغذية العقول ,(feeding minds) الصادر عن مؤسسة الصحة العقلية البريطانية الخيرية· وملخص هذا التقرير، هو أن التغيرات التي طرأت خلال الخمسة عقود الأخيرة على طرق إنتاج الغذاء، والمترافقة مع تغيرات مماثلة في أن