شتان ما بين المشهدين··
الأول، فوضى عارمة يعيث فيها مسلحون فسادا في الشوارع الفلسطينية، وصلت إلى حد اقتحام الحدود المصرية وقتل جنديين مصريين، واندفاع المئات إلى داخل الأراضي المصرية· المشهد الذي جرت وقائعه قبل أسابيع قليلة، كان مؤسفا للغاية ومخزيا وهز ثقة العالم في الفلسطينيين وقدرتهم على التعاطي بصورة إيجابية وعقلانية مع مقتضيات الواقع والمستقبل·
لكن الثاني جاء - أمس- مختلفا تماما ··· طوابير طويلة منتظمة تنتظر أمام لجان اقتراع، بصورة حضارية للإدلاء بأصواتها في أول انتخابات تشريعية فلسطينية منذ عشر سنوات·
وبقدر الاستياء من الأول كان الارتياح والترحيب بالثاني الذي كان الفلسطينيون في أشد الحاجة إليه للتغطية على بؤس المشهد السابق الذي أظهرهم في حالة مثيرة للشفقة والقلق·
الانتخابات الفلسطينية الآن وبهذا الإقبال من جانب الناخبين ووسط كل هذه الأجواء الحضارية هامة من كل الوجوه ، ما في ذلك شك· شأنها شأن كل انتخابات ديمقراطية في كل دولة· لكنها بالنسبة للفلسطينيين أشد أهمية وأكثر حساسية··
فالتجربة الديمقراطية تعني لهم تحولا عميقا من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة بما يقتضيه ذلك من تغير جوهري في أمور كثيرة ترسخت على مدى عقود طويلة خلال مرحلة النضال· وفي المقدمة منها، تأتي ممارسات من نوع استخدام القوة أو العنف أو التهديد بالسلاح لتسوية مشكلة أو طرحها ·
بما يعني أن صناديق الاقتراع هي البديل الطبيعي للسلاح في سياق تطور التجربة السياسية الفلسطينية· وتأسيسا على ذلك سينظر لاحقا إلى ممارسات كحمل السلاح والتهديد به باعتبارها بلطجة وخروجا على ما استقر عليه المجتمع وليست مجرد إفراز طبيعي للمجتمع أو طقس عادي يمكن غض البصر عنه·
أيضا الانتخابات مهمة على صعيد عملية السلام والمساعي المبذولة من أجل بناء الدولة المستقلة القادرة على البقاء· بل إنها في العمق منها تدحض وتكذب ما سعت إسرائيل إلى ترويجه طويلا عندما أقنعت الغرب باعتبارها النموذج الديمقراطي الوحيد في بحر من الدكتاتورية· إن الاجواء السياسية المفعمة بالأمن والالتزام بمعايير الشفافية والانضباط شبه المثالي الذي ساد عملية الاقتراع أمس تعد رسالة حقيقية من الفلسطينيين للعالم بأسره·
مفادها : نحن قادرون على إدارة أمورنا وفق المعايير الدولية المرعية ·· نريد حقوقنا في التعبير والأرض وفي الدولة·
وهذه رسالة سيكون لها صداها في المجتمع الدولي الذي لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن يتجاهل ما ستقرره صناديق الاقتراع الفلسطينية بصرف النظر عن الجدل الناشب بشأن حماس·