يشعر رجل الشارع ويؤكد المتخصصون أن هذا العالم يزداد تعقيداً وتشابكاً، وفي الواقع فإن التعقيد والتشابك هما من أهم خصائص العولمة· ولكن إذا كانت هناك سمة واحدة نختارها لشرح هذا العصر المعولم، فهي ارتكازه على العلم والمعرفة، بحيث إن العولمة تصبح مرادفة لمجتمع المعرفة وشبكاته، وعصب مجتمع المعرفة هذا أو جوهره هو الجامعات، ليس فقط كمدرجات وأماكن لدراسة الطلاب، ولكن أيضاً كمراكز بحث علمي متقدم بأجهزته ومعامله، وكذلك كبنوك تفكير تقوم بعقد مؤتمرات دولية وتنظيم حلقات دراسية لتشريح مشاكل المجتمع وإعداد سيناريوهات محتملة عن مستقبله·
رأيت كل هذا بمناسبة عودة سريعة إلى مدينة مونتريال الكندية، والتي لا تبعد عن نيويورك أكثر من 6 ساعات بالسيارة أو حوالى 50 دقيقة بالطائرة·
سكان مونتريال الكبرى -أي هذه الجزيرة الممتدة وضواحيها- ثلاثة ملايين نسمة، أي حوالى 20% من سكان القاهرة، ومع ذلك فهناك في هذه المدينة الصغيرة نسبياً أربع جامعات كبيرة، بالإضافة إلى عشرات المعاهد العليا، ومراكز وبنوك التفكير المستقلة التي لها ميزانياتها وباحثوها وأطرها الإدارية والفكرية· فمثلاً هناك الانتخابات الكندية الأخيرة التي وضعت الحزب الحاكم على محك الاختيار الشعبي بعد 12 عاماً في السلطة، وتقوم مراكز البحث العلمي بتحليل آراء ومواقف الأحزاب السياسية لاستشراف مستقبل كندا في ظل الحكومة الجديدة، بهدف رسم صورة دقيقة فعلاً لحاضر هذا البلد ومستقبله، بما يوضح للناخبين المتوجهين لصناديق الاقتراع أهمية تصويتهم ونتيجته للمجتمع ككل في السنوات القادمة، ويتم كل هذا بموضوعية شديدة تختلف اختلافاً جذرياً عن الدعاية الانتخابية التي يقوم بها كل حزب، وحتى لا نكاد نتعرف على التوجهات السياسية للمحللين وانتماءاتهم الحزبية·
وبالرغم من أهمية هذه المراكز البحثية، فإن لبنة مجتمع المعرفة هنا لا تزال الجامعات، فهي التي كوّنت هؤلاء الباحثين، وهي التي ترعاهم وتتعاون معهم ليشكلوا شبكة وطنية وعالمية يدعم كل منها الآخر، حسب إمكانية كل جامعة· وقد يكون من المفيد لشبابنا إعطاء نبذة عن كل من هذه الجامعات الأربع، حيث يزداد الطلب عليها خاصة بعد أحداث سبتمبر ،2001 ليس فقط بسبب القيود التي تفرضها الجامعات الأميركية على الشباب العربي وشباب العالم الثالث عامة، ولكن لأن كثيرين من هؤلاء الشباب بدأوا يتعرفون على قدرات هذه الجامعات، وفي الواقع تفضل غالبية كبيرة منهم كندا وتوجهاتها على الولايات المتحدة وسياساتها· وبسبب الخاصية اللغوية لمدينة مونتريال حيث الحضور الفرنسي الغالب، فهناك جامعتان فرنسيتان وجامعتان انجليزيتان، ولكن طلبة الدراسات العليا يستطيعون كتابة رسائلهم للماجستير أو الدكتوراه باللغة الإنجليزية أو الفرنسية· تتقاسم هذه الجامعات الأربع فيما بينها أكثر قليلاً من 160 ألف طالب· وتأتي في مقدمة هذه الجامعات جامعة ماكجيل، ليس بسبب حجم طلابها ولكن بسبب مكانتها التاريخية، فقد تم تأسيسها عام ،1821 ويقترب عدد طلابها من 30 ألفا وعدد أساتذتها من 6 آلاف، أي أن عدد الأساتذة بالنسبة للطلاب كبير، وهذا من المعايير التي تُستعمل للمقارنة بين الجامعات، فكلما ازداد معدل الأساتذة بالنسبة للطلاب كلما كان هذا دليلاً على عظمة الجامعة واهتمامها برعاية طلابها· أما الجامعة الثانية فهي جامعة مونتريال (فرنسية) وقد أنشئت عام 1878 ويقترب عدد طلابها من 55 ألفا وأساتذتها حوالى ،6500 ورغم أن هاتين الجامعتين تتميزان بوجود كليات طب بهما، إلا أن سمعة جامعة مونتريال العالمية تتقدم في كلية إدارة الأعمال وكذلك كلية الهندسة·
الجامعتان الأخريان حديثتان: جامعة كيبك (فرنسية) والتي تتسمى باسم المقاطعة، وأنشئت عام ،1969 ويبلغ عدد طلابها ،41,238 وأساتذتها ،980 بجانب بعض المحاضرين الذين يبلغ عددهم ·1870 أما جامعة كونكورديا (إنجليزية) فقد قامت بدمج بعض الكليات الموجودة وظهرت للوجود في عام ،1974 وعدد طلابها 32 ألفا وأساتذتها ألفان· هناك تفاصيل كثيرة يمكن إضافتها، ولكن ليس هذا مقامها·
وبسبــــب الكثرة النسبيـــة للجامعــــات في مدينة صغيرة وطــــلاب يأتون مــــن أقاصــــي المعمورة، تتمتــــع مونتريـــال بحياة ثقافيـــــة وعلمية نشطــــة وينافس الحــــي اللاتيني بها نظيره الأصلـــي فـــي باريــس، رغــم قســـوة الشتـــاء·