عندما تداعى الاتحاد السوفيتي عام ،1991 تساءل كثير من الأميركيين وخصوصا من الذين عاصروا الحرب الباردة، عن السبب الذي جعل الرؤساء الأميركيين المتعاقبين، يخصصون الجهود الهائلة والأموال الطائلة لمواجهة دولة انهارت في النهاية من تلقاء ذاتها على النحو الذي شاهده الجميــع· الكتاب الـــذي نقــوم بعرضـــه فــــي هــــذه المساحـــــة وعنوانــه: ''الحرب الباردة: تاريخ جديد'' كتبه ''جون لويس جاديس'' أستاذ التاريخ في جامعة'' ييل'' ومؤلف ستة مجلدات مشهورة عن الحرب الباردة وخصوصا عن الاستراتيجية التي تبناها طرفا الحرب والتي كتبها أثناء تلك الحرب أو بعد انتهائها بفترة قصيرة·
وفي الحقيقة أنه ليس هناك من الكُتّاب من هو أفضل من جاديس في شرح ذلك الصراع سواء في الوقت الذي كان يدور فيه أم الآن، بل إن فرصته في تقديم عمل عن تلك الحرب قد غدت أفضل الآن بعد أن انتهت المواجهة ومضت على انتهائها فترة كافية كانت كفيلة بالكشف عن الكثير من أسرارها· وجاديس رجل يتميز بالموضوعة والأمانة العلمية ما دعاه للقول إنه قد تبين له بعد انتهاء الحرب الباردة أن بعض الأحكام التي توصل إليها عن تلك الحرب كانت خاطئة ومنها على سبيل المثال ما كان قد ذكره في أحد كتبه في عام 1987 وهو أن ''الحرب الباردة قد استقرت في صورة سلام طويل·· سوف يستمر إلى ما لا نهاية'' فهو الآن يعترف بأن ذلك لم يكن صحيحا، وأن بعض القادة الذين كان يراهم حالمين في ذلك الوقت كانت لديهم بصيرة أقوى مما كان لديه بشأن النهاية التي ستؤول إليها تلك الحرب·
ويعود المؤلف في هذا الكتاب إلى تناول أحداث وشخصيات كان لها تأثير كبير على مسار على تلك الحرب· من تلك الأحداث على سبيل المثال القتال الجوي بين الطائرات الأميركية والطائرات السوفيتية إبان الأزمة الكورية والذي يقول المؤلف إنه كان الاشتباك الوحيد المباشر بالسلاح بين العملاقيين، ومنها أيضا ما يعرف بـ''أزمة الصواريخ النووية الكوبية'' ويعبر جاديس في الكتاب عن إيمانه بأن الزعيم السوفيتي ''نيكيتا خروتشوف'' قد قام بإرسال الصواريخ النووية التي أدت إلى تلك الأزمة سرا إلى كوبا، في محاولة منه لنشر الشيوعية عبر قارة أميركا اللاتينية بأسرها وأن خطوته تلك -في رأي المؤلف- كانت مدفوعة بالرومانسية الإيديولوجية ولم تكن نابعة عن تحليل استراتيجي دقيق· ويبين المؤلف بإيقاع لاهث تفاصيل تلك المحاولات التي قام بها الرئيس الأميركي ''دوايت ايزنهاور'' لمنع وقوع صدام نووي مع السوفيت في ذلك الوقت من خلال تأكيده أن مثل هذا الصراع لو وقع فإنه لن يكون محدودا وإنما سيؤدي إلى هلاك البشرية· ويمضي المؤلف بعد ذلك لبيان الكيفية التي تطورت بها استراتيجية'' إيزنهاور'' إلى ما أصبح يعرف باستراتيجية ''الدمار المتبادل المؤكد''، وهي تلك الاستراتيجية التي كانت تعتمد على فرضيه رئيسية قوامها أنه في حالة وقوع أي صدام نووي، فإن الشيء المؤكد هو أن ذلك سيؤدي إلى قيام كل طرف من طرفي الحرب بإفناء الطرف الآخر وهي الاستراتيجية التي كان لابد لها في خاتمة المطاف أن تسفر عن توقيع الطرفين على معاهدة الحد من التسلح النووي في هلسنكي عام ·1975 ويقدم المؤلف تقييما لتلك الاتفاقية التي وقعها الرئيس الأميركي ''جيرالد فورد'' مع القادة السوفيت، ويقول إنه على الرغم من أن الرئيس الذي جاء بعد فورد وهو رونالد ريجان قد احتقر تلك الاتفاقية، التي لم تسفر في رأيه سوى عن انقسام أوروبا على نفسها، إلا أنها في الحقيقة كانت لها نتيجة مهمة جدا وهي أنها ساعدت على إنشاء منتدى جديد للمنشقين والنقاد داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه، و''كانت الأساس الذي أدى في النهاية إلى تقنين المعارضة في الاتحاد السوفيتي''·
ويخصص جاديس جزءا من كتابه للحديث عمن أسماهم '' مخربي الوضع القائم''، ويقصد بهم القادة الذين رأوا أن الغرب قد دفع ثمنا باهظا من الناحية الأخلاقية والسياسية في سبيل الحفاظ على الوضع القائم مع موسكو، وأن الوقت قد حان للتغيير·· ومنهم البابا يوحنا بولس الثاني، والزعيم البولندي العمالي ليخ فاليسا، ورئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، والرئيس الأميركي رونالد ريجان· أما البابا يوحنا بولس الثاني فكان هو الرجل الذي قام بحشد القوى الروحية للكنيسة ضد الشيوعية، وكان هو الذي دعم حركة التضامن التي قادها الزعيم العمالي ليخ فاليسا والتي أسقطت الحكم الشيوعي هناك في النهاية· أما ريجان فكان الرجل الذي مزق حالة السكون السائدة بين العملاقين النوويين، من خلال استغلال ضعف الاتحاد السوفيتي من جانب، والاستفادة من جوانب القوة الأميركية والغربية الهائلة من جانب آخر، وعمل على إنهاك السوفييت من خلال برنامج حرب النجوم الذي عجزوا عن مجاراة الأميركيين فيه والذي تمكن ريجان في نطاقه من بناء درع هائل من الصواريخ المضادة للصواريخ النووية· كما يخصص المؤلف جزءا لا بأس به من كتابه للحديث عن الرئيس السوفيتي ميخائيل جورباتشوف الذي قام على حد وصف المؤلف ''بالتنازل عن الأيديولوجية وع