في ندوة عن الإرهاب والتطرف الديني، عقدت في دولة قطر سنة ،2004 وبعد أن سمع الكثير عن تجربة إجهاض محاولة وصول الإسلاميين إلى السلطة في الجزائر، صاح الأستاذ السوداني د· حسن إبراهيم بالحضور: ''لماذا يتباكى الجميع ويولولون على الإسلاميين الجزائريين وتجربتهم المجهضة ومحاولتهم الممنوعة في الوصول إلى السلطة، ولا أحد يلتفت إلى ما فعل، من وصل إلى السلطة من الإسلاميين في السودان؟''·
أعادت حادثة الاصطدام في القاهرة بين قوى الأمن المصري واللاجئين السودانيين التجربة الإسلامية في السودان إلى محور الاهتمام، فقد كان المأمول أن يكون ''الإسلام هو الحل'' هناك، بعد انقلاب يونيو ،1989 وتسلم قيادة البلاد من جانب العسكريين ومعهم أبرز مفكري الإسلام السودانيين الدكتور حسن الترابي· ولكن ها هو السودان بكل إمكانياته في الميثولوجيا القومية والإسلامية، وكل ذاك الحديث عن سلة الخبز العربية وملايين الهكتارات من الأراضي الصالحة للزراعة التي أهملتها الأنظمة السابقة وسيتولى إعمارها وتشجيعها وتخصيبها الإسلاميون، بل وكل ما في كتب الترابي وغيره من أحاديث وبرامج ووعود عن ''حكم الإسلام'' و''نزاهة الإسلاميين''، وفشل الأنظمة السابقة··· ها هي السودان وتجربتها الإسلامية تنكشف عبر إلقاء القبض على الدكتور الترابي، وكوارث دارفور، ومغامرات بن لادن، وهروب السودانيين من نار الفقر والبؤس، ومن الجنة التي وعد حكام السودان الإسلاميون شعبهم بها، بما في ذلك المساهمة في النشاطات الإرهابية··· في العراق!
يدخل الدكتور الترابي هذا العام الرابعة والسبعين من عمره، وفي كتاباته يعزف على 74 وتراً من أوتار الأفكار والبدائل الدينية والحيل الشرعية· وقد حاول تطبيق ''الإسلام'' مع جعفر النميري، ثم ترك السفينة قبل أن تغرق، ليتولى ريادة سفينة عمر البشير الانقلابية ''الإسلامية''، لينقلب عليه صاحبه، ويعتقله في منزله منذ عام ،1999 وفي السجن كذلك، إلى ما قبل أشهر قليلة، حيث أطلق سراحه·
درس الترابي القانون في جامعتي الخرطوم ولندن، ونال دكتوراه القانون المقارن من جامعة باريس، وهو يتكلم ويكتب بالعربية والانجليزية والفرنسية ويقرأ الألمانية· ولسنا في هذا المقال بصدد استعراض أو مناقشة أفكاره وكتبه ومقالاته ومقابلاته التي لا تحصى· فقد تستطيع الإمساك بالثعبان من رأسه، والسمكة من ذيلها تحت الماء، وقد تنجح في التقاط قطرة من الزئبق أو تفلح في فهم نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة والعامة والكون الأحدب، ولكنك لن تستطيع أن تبني دولة عصرية حقيقية، أو عالماً متماسكاً من أفكار الدكتور الترابي ومواقفه السياسية!
ولعل السبب لا يكمن فقط في شخصيته ومراوغاته السياسية بقدر ما ينبع كذلك من طبيعة التجربة الإسلامية السودانية والمؤثرات التي شكلتها· يعدد الباحث الموريتاني محمد بن المختار الشنقيطي روافد الفكر التنظيمي لدى الحركة الإسلامية في السودان، فيصفها بـ''التنوع والغزارة''، وأن الحركة ظلت تجتهد في الاستمداد من كل جديد والأخذ من كل حكمة ''ولو كانت في يد عدو''! ويرى الشنقيطي أن أهم هذه المصادر:
1- فكر الإخوان المسلمين، حيث كان الحماس لتجربة تلك الحركة وأدائها لدى السودانيين في أول العهد فائقاً كل الحدود، إلى حد أن العديد من الطلاب السودانيين كانوا يقضون الليالي الطوال وهم يستنسخون رسائل حسن البنا بالأيدي ويحفظونها عن ظهر قلب· ولكن هذا الولاء المطلق لإخوان مصر كان مؤقتاً كما هو معروف·
2- فكر الجماعة الإسلامية بباكستان، إذ وجد السودانيون في فكرها وتجربتها ما يستحق الأخذ والاعتبار فاستمدوا منها وبخاصة في مجال الفقه السياسي· ومن أمثلة ذلك أن ''جبهة الميثاق الإسلامي'' أعدت دستوراً إسلامياً نموذجياً بالتعاون مع ظفر الله الأنصاري الباكستاني· وقد رد الإسلاميون السودانيون الجميل لإخوانهم الباكستانيين أيام تحالفهم مع ضياء الحق، حينما دعا الرئيس ضياء الحق الدكتور الترابي للمشاركة في صياغة قوانين باكستان الإسلامية، كما وردت في مصادر الحركة السودانية إشارات إلى التأثر بفكر أبو الأعلى المودودي على وجه الخصوص·
3- الفكر التنظيمي الغربي، حيث اقتبست الحركة الإسلامية في السودان منه الكثير· ولا غرابة في ذلك في حركة، يقول الباحث، نهل روادها من فكر الغرب التنظيمي، وعاش أكثرهم في الغرب متعلمين في مدارسه وحياته، وتعرفوا نظام مؤسساته وجماعاته وأحزابه· وكان هذا الرافد أساسياً في حياة الحركة وحيويتها· ''صحيح أن هذا الفكر قد أضر بأخلاقيات الحركة -قليلاً- من حيث دقة الالتزام بخلفيتها الفكرية الإسلامية··· لكن ما أفاد به الفكر التنظيمي الغربي الحركة الإسلامية في السودان، كان أكبر وأهم من كل المساوئ التطبيقية'' (ص 75)·
4- فكر الحركة الشيوعية السودانية، حيث يقول الدكتور الترابي في كتابه ''الحركة الإسلامية في السودان'': ''أخذت الحركة أيضاً شيئاً من منهج التنظيم والحركة من مصدر قد يكون غريباً، وهو الحركة الشيوعية -التي كانت غالبة في الأوساط الطلابية،