عندما شاهدت الصور التي بثتها شاشات التلفاز من غزة يوم الجمعة الماضي لنشطاء ''فتح'' المصدومين وهم يقومون بإحراق السيارات وإطلاق نيران البنادق، أدركت حينها أن ياسر عرفات لم يعش حياته عبثا، بل قام بزرع عادات ذهنية لا زالت تشكل عقلية شعبه·
لقد حول عرفات آمالا شعبية إلى قضية عاطفية وذلك عندما خلق رموزا مثل الكوفية الفلسطينية واللحية غير المحلوقة والبندقية، وعندما خلق ميثولوجيا وطنية، وزرع في أتباعه عقلية ثورية قوامها أن النضال السياسي عمل من أعمال البطولة، وأن الروح الجهادية السامية أفضل من الحكومة المدنية، وأن الحماس أفضل من التسوية والتوافق، وأن الخصوم شر محض· وعندما شاخ عرفات شاخت معه منظمته ولكنها لم تكن أبدا منظمة عادية· لقد رفض عرفات السلام في كامب ديفيد، لأنه كان يعني التخلي عن النضال مقابل تكوين إدارة· وفي الحقيقة أن ''فتح'' لم يكن لديها أبدا مكان لمثل تلك المهام ''التافهة'' التي تضطلع بها معظم الحكومات·
وهكذا كان لابد أن يبرز منافس للمنظمة في فلسطين وهو حركة ''حماس''· وعلى النقيض من ''فتح''، فإن ''حماس'' اهتمت بالناس العاديين·· ولكنها كانت بشكل ما مثل ''فتح'' من حيث أنها كانت مدفوعة بعقيدة ثورية بطولية، وكانت تنظر إلى السياسة نظرة حدية أي أنها إما انتقام أو مجد وإما نصر أو شهادة·
صحيح أن إسلاميي ''حماس'' ليسوا متعصبين مثل الزعماء الإيرانيين كما يقول الدبلوماسي الأميركي السابق دينيس رو، ولكن مجرد نظرة واحدة إلى ميثاق المنظمة ستكشف لنا عن عقلية مليئة بالغضب، وتعاني من الشعور بالاضطهاد وتنذر بالخراب· وهكذا فإنه على الرغم من أن ''فتح'' و''حماس'' منظمتان متنافستان، إلا أن أيا منهما ليست لديها عقلية ديمقراطية· فالديمقراطية في تجلياتها اليومية بورجوازية ولا علاقة لها بالبطولة وتتعلق بفوز الأحزاب في الانتخابات أو خسارتها، وتتعلق أيضا بقضايا لا يمكن حلها أبدا وتظل قائمة على الدوام· وعلى الرغم من ذلك، فإن المد الديمقراطي غدا عارما في مختلف أنحاء العالم، وسبب هذا المد ليس الولايات المتحدة الأميركية، وإنما روح العصر·· وهذه الروح هي التي جاءت بالانتخابات إلى فلسطين· وفي تلك الانتخابات كان على الناس أن يختاروا بين منظمة فاسدة ومنظمة أخرى تعتني بحاجاتهم· وفي الحقيقة أن هذا الخيار بين الأسوأ والأقل سوءا هو الذي يواجه المواطن حاليا في مختلف أنحاء العالم العربي· والنجاح الديمقراطي كما هو معروف يعتمد على الناخبين والزعماء الديمقراطيين، ولكن هؤلاء الناخبين وهؤلاء الزعماء لا يمكن خلقهم في وسط يسوده الطغاة والمستبدون والإرهابيون· ففي مثل هذه الظروف، يصبح التحول الديمقراطي، أشبه ما يكون بمحاولة بناء طائرة خلال مرحلة الإقلاع· ولكن الإقلاع قد بدأ بالفعل، والتحول الديمقراطي يمضي قدما، وفلسطين تدخل الآن في أكثر المراحل صعوبة وألما، وذلك عندما يجد الشعب الثوري نفسه مجبرا على التحول إلى مجتمع سياسي ديمقراطي عادي· وهذه المرحلة في الحقيقة هي مرحلة تغيير العقليات من مرحلة الشعر والعقيدة إلى مرحلة النثر والإدارة· وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي نجح في تحويل مثل هذا التحول في جنوب أفريقيا بفضل نيلسون منديلا· والروس حققوا مثل هذا التحول جزئيا ولكن الكثيرين منهم لا يزاولون يفضلون السياسات الحماسية التوتاليتارية المتأثرة بالتعاليم الشيوعية· ليس هناك منديلا فلسطيني يقود شعبه نحو هذه الذهنية الجديدة· وإنما هناك محمود عباس، وهو رجل ديمقراطي ولكنه يجلس على كرسي مزعزع يستقر على قمة منظمة من المقاتلين·
لقد روجت الولايات المتحدة للديمقراطية في الشرق الأوسط بظن أن عملية التحول ستكون مؤلمة وصعبة ولكنها لن تكون كارثية بأي حال· ولكن يجب الإقرار بأنه وكما قال ''جيفري جولدبرج'' في ''النيويوركر'' أن الحمى في بعض الأحيان قد تخف وتترك جسم المريض وقد شفي، ولكنها في بعض الأحيان أيضا تخف ولا تترك جسم المريض إلا بعد أن تقتله· إن لحظة الأزمة التي كنا جميعا نعرف أنها آتية ولا ريب فيها قد أصبحت أمامنا الآن· وكل ما نستطيع قوله بعد أن بدأت تلك اللحظة هي أن العالم العربي القديم الذي تقوده الحركات المتطرفة لم يكن جنة أبدا وليس هناك ما يمنع بالتالي من تغييره· ونستطيع أن نقول أيضا إن هناك تقدما قد حدث، وإن الناخبين الفلسطينيين قد جلبوا قدرا من المساءلة والرقابة إلى السلطة الفلسطينية· إن أوروبا لم تحاسب خلفاء عرفات على فسادهم، ولكن الناخبين الفلسطينيين الذين بدأوا عملية التوعية الذاتية قد فعلوا ذلك·
الشيء الأول الذي يتعين علينا عمله الآن هو أن نحاسب الشعب الفلسطيني ذاته على خياره· فمن خلال القيام بشكل واضح وثابت بعزل ''حماس''، نستطيع أن نذكر الناخبين الفلسطينيين بأن خياراتهم هي الأخرى لها عواقبها، وأن الخيارات الراديكالية في الديمقراطيات كفيلة بتدمير النفس، حتى وإن جعلتك تشعر بالرضى عند القيام بها· وإذا ما رفض الأوروبيون عزل ''حماس''، وإذا ما غفروا للراديكالية، فإنهم سيدمرون تلك