عاد عملاق صناعة الكمبيوتر ''بيل جيتس'' وزوجته ''مليندا جيتس'' ليحتلا موقع الصدارة في عناوين الأخبار الطبية العالمية، عندما قاما هذا الأسبوع بمنح هبة مقدارها ستمائة مليون دولار (2,2 مليار درهم) من مالهما الخاص، لغرض مكافحة مرض السل أو الدرن· وتأتي هذه المنحة الأخيرة، بعد أن كان ''بيل جيتس'' وزوجته قد قدما سابقا هبة أخرى للغرض نفسه، وبمقدار ثلاثمائة مليون دولار (1,1 مليار درهم)· وانتهز ''بيل جيتس'' اجتماعات المنتدى الاقتصادي الدولي في ''دافوس''، ليحيط نفسه بكل من وزير المالية البريطاني ''جوردون براون''، والرئيس النيجيري '' أولوسيغون أوباسانجو''· حيث وقف ''جيتس'' ليعلن أن هبته ستستخدم لإنقاذ حياة أربعة عشر مليون شخص، يتوقع أن يلقوا حتفهم بسبب مرض السل إنْ لم يتلقوا العلاج المناسب في أقرب وقت ممكن· وتأتي هبات عائلة ''جيتس''، ضمن حملة دولية لمكافحة السل، تشارك فيها أكثر من أربعمائة دولة ومنظمة وهيئة من مختلف أرجاء العالم، بهدف علاج خمسين مليون شخص خلال الأعوام العشرة القادمة، وبتكلفة يتوقع لها أن تتخطى خمسة وستين مليار دولار· وبالفعل بدأت الدول المشاركة في هذه الحملة، والمعروفة بالخطة الدولية لمكافحة السل (Global Plan to Stop Tuberculosis)، في جمع الأموال وتوحيد الجهود لتحقيق الهدف النهائي الرامي لدحر ما يطلق عليه الأطباء لقب الوباء الأبيض· وبالفعل أطلقت شرارة البداية على صعيد هذه الجهود يوم الخميس الماضي، عندما وقف ''جوردن براون'' أمام أعضاء مجلس ''العموم'' البريطاني، لينبه الجميع بأنه بمرور كل خمسة عشرة ثانية يلقى شخص حتفه في مكان ما من العالم بسبب السل، وليعلن عزم الحكومة البريطانية على منح خمسة وسبعين مليون دولار لمكافحة المرض في الهند فقط· وبعدها بأيام وأثناء وجوده في دافوس، طالب ''براون'' دول الثماني الصناعية بأن تضع مكافحة السل على قائمة أولوياتها، وأن يتم هذا بالتعاون مع دول الاتحاد الأفريقي، والذي تتحمل دوله العبء الأكبر من الثمن الإنساني والاقتصادي لوباء السل العالمي· وهو أيضا ما دفع بالرئيس النيجيري '' أولوسيغون أوباسانجو'' أثناء وجوده في دافوس، إلى التنبيه بأن الخطة الدولية لوقف السل أصبحت تشكل أهمية بالغة لمستقبل القارة الأفريقية· ودلل ''أوباسانجو'' على خطورة الوضع في القارة السمراء، بإعلان أكثر من 46 دولة أفريقية خلال عام ،2005 بأن وباء السل على أراضيها وبين شعوبها قد وصل إلى حالة الطوارئ·
وكي ندرك سبب توالي التحذيرات من المنظمات والهيئات الصحية حول العالم، والدافع خلف توجيه عشرات المليارات من الدولارات نحو جهود مكافحة السل، يجب أن نتوقف قليلاً عند طبيعة هذا المرض ومدى انتشاره بين أفراد الجنس البشري· فالسل يعتبر من أكثر الأمراض المعدية انتشاراً بين أفراد الجنس البشري على الإطلاق، حيث يصيب ملياري شخص، أو ثلث أفراد الجنس البشري· ويحتل السل المركز الثاني في قائمة أكثر الأمراض المعدية فتكاً، حيث يودي بحياة مليوني شخص سنوياً، ليسبق بذلك الملاريا التي تقتل مليون شخص سنوياً، ويلي الإيدز الذي يقتل ثلاثة ملايين شخص· السل مرض بكتيري مُعدٍ، يصيب العديد من أجهزة وأعضاء الجسم· فمثلا يصيب السل الجهاز التنفسي مسبباً السل الرئوي، الذي يعتبر أكثر أنواع السل انتشاراً على الإطلاق· وأحياناً ما يصيب السل الجهاز الدوري، أو الجهاز الليمفاوي، أو الجهاز التناسلي، أو المفاصل والعظام· وإذا ما أصاب السل الجهاز العصبي المركزي، فينتج عنه نوع خاص من التهاب الأغشية السحائية، أو الأغشية المحيطة بالمخ· هذا التنوع والاختلاف في الأماكن والأجهزة والأعضاء التي يمكن أن تصاب بالسل، ترافق بتعدد وتنوع مماثل في العلامات والأعراض، وهو ما سبب نوعاً من الارتباك للأطباء في تعاملهم مع هذا المرض إلى درجة أنهم لم يتمكنوا حتى نهاية القرن التاسع عشر من التعرف على طبيعته وتحديد هويته، رغم أن ''أبوقراط'' كتب في القرن الخامس قبل الميلاد واصفاً المرض بأنه أكثر الأمراض انتشاراً في عصره·
وتحدث العدوى بميكروب السل، عن طريق رذاذ الهواء المحمل بالميكروب الناتج عن سعال، أو عطس، أو بصق، أو حتى مجرد الكلام من شخص مصاب بالمرض· ويمكن للمريض الواحد، أن ينقل العدوى لعشرين شخصاً آخرين في العام الواحد· ولكن لحسن الحظ، لا يمكن أن تنتقل العدوى من شخص إلى آخر، إلا في الحالات التي يكون المرض فيها نشطاً· فرغم الأعداد الهائلة من البشر التي تحمل ميكروب السل بين ثنايا رئتيها، فإنه في تسعين في المئة من الحالات يكون المرض خاملاً، بحيث لا تظهر على المريض أية أعراض، ولا يمكنه أيضاً نقل العدوى إلى الأصحاء· والمؤسف أن حالات السل تشهد تزايداً مطرداً عاما بعد عام، حيث يزداد عدد حالات الإصابات الجديدة بمقدار تسعة ملايين حالة كل عام· وبخلاف ازدياد عدد الحالات سنوياً، يشهد العالم أيضا تزايداً مطرداً في مقاومة الميكروب للمضادات الحيوية المستخدمة ضده، وهو ما من شأنه أن يرفع من نسبة الوفيات بسبب