هل كان فوز ''حماس'' في الانتخابات التشريعية الفلسطينية مفاجئا؟ لكن: مفاجئا بالنسبة لمن؟ ومفاجئا بأي معنى؟ بعبارة أخرى: هل المقصود أن الفوز كان مفاجأة سارة؟ أم كان على العكس من ذلك تماما؟ يحتاج الأمر إلى شيء من التفصيل· أظن أن فوز ''حماس'' بالنسبة لمن كان يتمناه، كان بالفعل مفاجأة، ومفاجأة سارة· لم يكن مناصرو ''حماس'' يتوقعون فوزا بهذا الحجم· ربما كانوا يرون أن الأوضاع في المنطقة، وفي الأراضي الفلسطينية تحديدا، تتطلب حدوث تغير في توجهات الناس ومواقفهم تجاه ما يعرف بعملية السلام، وأن تتم ترجمة هذا التغير إلى فعل سياسي· ولابد أن هؤلاء الأنصار يرون أن ''حماس'' تقدم البديل الأفضل للفلسطينيين·
في نظرهم بدأت تظهر على منظمة ''فتح'' علامات شيخوخة لا يمكن تفاديها: مؤسسها وقائدها الرمز، ياسر عرفات، مات بطريقة سريعة وغامضة· الانقسامات بدأت تعصف بها، والفساد انتشر في أجهزة السلطة التي أنشأتها· بل وصل الأمر إلى صدامات مسلحة وفوضى أمنية· الأسوأ أن ''فتح'' أصبحت سجينة لأوسلو: لا تستطيع القول إنها ماتت، وفي الوقت نفسه لا تستطيع القول إنها تنبض بالحياة· هي معلقة مع وأسلو بين إرهاب إسرائيلي وضغوط أميركية، وميل أوروبي نحو إسرائيل، ومجاراة عربية للضغوط الأميركية· أوسلو نفسها لم تترك أمام ''فتح'' إلا اللجوء إلى مصر كراع للفلسطينيين في مقابل الرعاية الأميركية للإسرائيليين· الفرق بين هذه الرعاية وتلك شاسع جدا· مصر معنية بالرعاية الأميركية لها أكثر من رعايتها هي للفلسطينيين· ''فتح'' تعرف ذلك، لكنها لا تستطيع أن تفعل شيئا·
والنتيجة؟ الجدار العازل يتمدد، وسياسة الاغتيالات مستمرة، ومصادرة الأرض لم تتوقف، والانسحاب من قطاع غزة لم يفض إلا إلى تحويله إلى سجن كبير تحت رقابة الجيش الإسرائيلي· ثم إنه، وبعد أكثر من عشر سنوات على ''أوسلو''، لا تستطيع ''فتح'' القول إن السلام يقترب من الأرض المقدسة· يمكن القول إن هناك سلاما في إسرائيل: هناك دولة تملك أقوى جيش في المنطقة، وتملك ترسانة نووية، وهناك سيادة، واقتصاد ينمو، ويوفر للإسرائيليين متوسط دخل سنوي تغار منه أغلب الدول العربية، بما فيها مصر راعية الفلسطينيين· وبعد كل ذلك لا يزال العالم، وتحديدا أميركا والاتحاد الأوروبي، لا يعرف إلا لغة واحدة، لغة الأمن الإسرائيلي· ماذا عن أمن الفلسطينيين؟ ماذا عن حقوقهم؟ ماذا عن تنازلات ''فتح''؟ ماذا عن تنازلات مصر والأردن؟ أين هو الدور العربي، وتحديدا دور مصر كشريك في رعاية عملية السلام؟ كل هذه وغيرها أسئلة لا توجد لأي منها إجابة· كلها أسئلة معلقة تنتظر اقتناع الطرف الإسرائيلي بضرورة الوصول إلى حل·
أمام صورة كهذه، كيف يمكن توقع رد فعل الشارع الفلسطيني؟ ومع ذلك يقال إن أنصار ''حماس'' فوجئوا بأن الموقف الشعبي متقدم عليهم، وتجاوز توقعاتهم وتمنياتهم كثيرا· السؤال هنا: هل الشعب الفلسطيني بتصويته لـ''حماس'' أراد توجيه رسالة لـ''فتح''؟ أم للإسرائيليين والأميركيين؟ الأكيد أنه أراد توجيه رسالة لـ''فتح'' وللعالم كله؟ من داخل المشهد القاتم في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن تحت فوهات دبابات الجيش الإسرائيلي التي تحاصر المدن في الضفة وغزة، لم يتردد الفلسطينيون في منح صوتهم لـ''منظمة حماس الإرهابية''· وقف الشعب الفلسطيني أمام العالم، وأمام سيدة النظام الدولي، أميركا، ليعلن احتجاجه ورفضه لمحاولات التلاعب بمصيره وحقوقه في سبيل أمن الدولة اليهودية· أن يقف شعب مع منظمة تصفها أكبر قوى العالم بأنها منظمة إرهابية له دلالة واضحة· الفلسطينيون لا يملكون معاقبة أحد· يملكون القدرة على الاحتجاج فقط·
كيف خطر على بال بوش وحلفائه الأوروبيين أن يطالبوا بالديمقراطية والانتخابات في فلسطين، وصورة المشهد انتهت على أيديهم إلى ما هي عليه الآن من بؤس؟ ربما يدل هذا على التزام غربي غير محدود، التزام لا يلين بقيم الحرية وحقوق الإنسان، وقناعة بأن الطريق إلى السلام في المنطقة لا يقوم إلا على أساس من هذه القيم دون سواها· الإشكال الكبير هنا أن هذا الالتزام الأميركي- الأوروبي موجه بالدرجة الأولى نحو الدولة اليهودية، وأن امتداده نحو الشعب الفلسطيني هو امتداد بالتبعية· الأساس في هذا الالتزام هو حق الإسرائيليين في الأمن والحرية والسلام· حق الفلسطينيين في هذه الحالة مرهون، ليس بما تحقق للإسرائيليين على أرض الواقع، بل بقناعة ورضا الإسرائيليين بما تحقق لهم، وبما حصلوا عليه من مكتسبات ليست بالضرورة من حقوقهم· حقوق الفلسطينيين ليست حقوقاً طبيعية وأصيلة غير قابلة للإنكار، وإنما حقوق مشروطة برضا وموافقة الطرف الآخر· بعبارة أخرى، بمقدار ما يجد الشعب الفلسطيني نفسه رهينة للاحتلال الإسرائيلي، تبقى حقوقه كذلك رهينة، وبالتبعية نفسها، لمدى رضا الإسرائيلي عما أنجزه، فيما يتعلق بحقوقه وأطماعه هو، من خلال هذا الاحتلال·
فوز ''حماس'' كشف أن الرؤية الأميركية- الأوروبية أسوأ من ذلك· لابد أن تأتي الديمقراطية الفلسطينية، أو الديمقراط