لقد بدا واضحاً منذ لحظة اندلاع الحرب على العراق, أن تحقيق النصر الحاسم فيه, يتوقف على الإجابة على هذا السؤال الجوهري: هل كان العراق على ما ظل عليه, بسبب النهج الاستبدادي الشمولي الذي اتبعه صدام إبان حكمه له, أم أن صدّام هو الذي تمثل حالة العراق, باعتباره دولة جبلت تاريخياً على الانقسام ما بين شيعة وسنة وأكراد, وأنه لا سبيل للحفاظ على وحدتها وتماسكها إلا بالقبضة الحديدية الباطشة؟ ومن سوء الطالع أنه وفي محاولة منها للإجابة على هذا السؤال الشائك الصعب –الذي لا يملك حتى العراقيون إجابة له- كان على الولايات المتحدة الأميركية أن توفر الحد الأدنى من الأمن لكافة العراقيين, كي يسترخوا قليلاً ويلتقطوا أنفاسهم بما يكفي للتفكير فيما وراء هوياتهم الدينية والعرقية. غير أننا لم نقم بهذا الواجب البتة. والسبب هو أن الرئيس بوش فضل شن الحرب على العراق, تأسيساً على مذهب وزير دفاعه دونالد رامسفيلد الذي يقوم على إرسال ما يكفي من القوات لفشلنا هناك. ويتناقض هذا المذهب كما نعلم مع مذهب كولن باول المختبر والمجرب في ساحات المعارك والحروب, أي إرسال قوة عسكرية ضاربة كبيرة من أجل تحقيق النصر.
والذي ترتب على غياب تلك القوة الضاربة الكبيرة, هو تعرض المدن والمنشآت الحكومية العراقية للنهب والسلب, وكذلك السطو والاعتداء على محتويات مخازن الذخيرة والأسلحة, إضافة إلى انفتاح الحدود على مصراعيها أمام المرتزقة والمتسللين. أما النتيجة النهائية التي أسفرت عنها كل هذه الأوضاع مجتمعة, فهي انفلات الأمن الذي دفع بالعراقيين للاحتماء بانتماءاتهم القبلية والعشائرية التقليدية, بدلاً من اعتمادهم على قوات الشرطة أو الجيش الوطني. وكعادة الناس دائماً, فقد أدرك العراقيون بحدسهم وفطرتهم, من الذي يستطيع أن يحمي ظهورهم عندما تحل بهم الكوارث والمحن. ولهذا السبب فقد احتمى الكثير منهم بالمليشيات المحلية المسلحة.
صحيح أننا قطعنا خطوات لا بأس بها في بناء جيش وطني عراقي, إلى جانب نجاحنا في عقد الانتخابات العامة. غير أن فشلنا في توفير الأمن عقب الاجتياح والاحتلال, إنما يعني محاولتنا بناء هذه المؤسسات الوطنية, في تنافس ولهاث وسباق مع مقاتلي التمرد وإرهابيي تنظيم "القاعدة" وفرق الاغتيالات الشيعية وشتى المليشيات الطائفية العراقية, التي سرحت ومرحت, وخلا لها الجو تماماً بسبب الفجوة الأمنية التي أعقبت الغزو.
ولعل واحداً من أهم الدروس والعبر التي تعلمتها من تغطية الحرب الأهلية اللبنانية, هو أنه وما أن تجد المليشيات الطائفية موطئ قدم لها في الأرض, حتى تنغرس عميقاً في باطنها, وتطور استراتيجياتها وأهدافها ومصالحها الخاصة, بما يجعل اقتلاعها, مهمة في غاية التعقيد والصعوبة. وكما قال السفير الأميركي في العراق زلماي خليليزاد, لصحيفة "واشنطن بوست" فإن المليشيات الطائفية هي البنية التحتية للحرب الأهلية ولبنتها, وهي كذلك التربة التي ينمو عليها جميع لوردات الحرب.
وبالطبع ما كان لهذا أن يحدث مطلقاً. ذلك أن فريق بوش, كثيراً ما أكد على وجود قوات عسكرية كافية في العراق, وأنه ما من أحد من القادة المرابطين في مناطق العمليات, طلب إمداده بأي عدد إضافي من الجنود. وهذه فرية مردودة إلى نحر من أطلقوها. فقد كشف كتاب بول بريمر الذي تولى قيادة الإدارة المدنية الأميركية عقب الحرب مباشرة -"سنتي في العراق"- وهو كتاب صدر للتو, عن أنه ألح في طلب المزيد والمزيد من القوات, دون أن يصغي إليه أحد! بل يعترف بريمر بقوله: "لقد كان انتشار قوات التحالف الدولي طفيفاً وضعيفاً جداً على الأرض. وأثناء التقارير الاستخباراتية التي أتلقاها صباح كل يوم عن سير العمليات, كثيراً ما وقفت عند حقيقة ضعف عدد وحدات الإطفاء, إلى درجة أنهم يلهثون من موقع حريق وانفجار إلى آخر, دون أن يكفي عددهم لإطفاء كل النيران الملتهبة". وضمن تلك الاعترافات التي احتواها الكتاب, قال بريمر إنه كتب في عام 2003 إلى كوندوليزا رايس محدثاً إياها بأن: "قوات التحالف الموجودة على الأرض, يعادل عددها نصف العدد المطلوب فعلياً, وأن في ذلك خطراً كبيراً على انقلاب رياح الحرب علينا".
وبسبب تقصير أميركا في نشر ما يكفي من جنود وقوات على الأرض منذ البداية, فإنه ليس ممكناً لها أن تبسط الأمن وحدها اليوم هناك. وما لم يتوفر ما يكفي من إجماع خارجي سياسي, حول ما يجب أن تسير إليه الأوضاع في العراق, فلا سبيل للجيش العراقي الوطني أن يؤدي هذا الدور وأن يكون له من العزم ورباطة الجأش ما يمكنه من أدائه.
وعليه فقد بقي لنا أن نعلق أملنا الوحيد في النجاة, على قشة عريضة كبيرة, لا تزال طافية على السطح. ونعني بهذه القشة, القادة العراقيين الجدد, الذين يستطيعون وحدهم قيادة السفينة العراقية إلى بر الأمان, وحفظ أمنها ووحدتها. لكن وفي سبيل القيام بهذا الدور, فإن عليهم أن يوحدوا صفوفهم وكلمتهم, وأن يدفنوا سيوفهم وبنادقهم وضغائنهم, وأن يولوا وجوههم شطر حكومة وحدة وطنية عراقية حقة, يكون لها من