نزل مئات آلاف الطلبة والعمال النقابيين إلى شوارع فرنسا، طولاً وعرضاً، ما أطلق الغضب والتوتر المستمرّين وعطّل الكثير من وسائل المواصلات والنقل وشرايين الحياة العامة. هذا فضلاً عن أعمال الكسر والخلع والسرقة التي أطنبت في وصفها وسائل الإعلام الفرنسية والغربية، وعزتها إلى قوى متطرّفة بعضها في أقصى اليسار وبعضها من أقصى اليمين. وهو كله ما أعلن، مرة أخرى، عن سمة لازمت، بلا انقطاع، التاريخ الحديث لذاك البلد الذي أسماه البعض منذ ثورة 1789 "وطن الثورة". فقد اعتبر الكاتب والروائي إلياس كانيتي، نائل جائزة نوبل للآداب أوائل الثمانينيات، أن "الثورة" ترمز إلى فرنسا تماماً بقدر ما ترمز "الغابات" إلى ألمانيا، و"المراكب" إلى بريطانيا، و"مصارعة الثيران" إلى أسبانيا. إنها، كما قال كانيتي، الرمز الجماعي اللاواعي للفرنسيين.
فقد درجت فرنسا، من دون كلل تقريباً، على إبداء الردود الغاضبة والعنيفة التي تمنّعت عنها بلدان أخرى مشابهة في تطورها الاقتصادي والسياسي: يكفي أن نقارن شكل الاستياء العاصف من قانون العمل الجديد، أو "قانون التعاقد" حسب تسميته الرسمية، والذي يجيز تسريح من هم دون السادسة والعشرين، بالخطة التي يُفترض أن تنفّذها الحكومة الجديدة في ألمانيا مثلاً. فبقيادة السياسية المحافظة أنجيلا ميركل والحكومة الائتلافية التي تضم الحزبين الكبيرين، "المسيحي الديمقراطي" و"الاشتراكي الديمقراطي"، سيفتح الألمان الباب أمام التسريح بشكل مطلق لا تحدّه، على عكس القانون الفرنسي، أية فئة عمريّة. وبهذا تتخذ ألمانيا الرسمية موقفاً أكثر راديكالية من جارتها فيما يخص تحرير الاقتصاد ومكافحة البطالة المستشرية في البلدين. إلا أن رد الفعل الاعتراضي للألمان لا يُقدّر له أن يكون شبيهاً برد الفعل الفرنسي.
بل يمكن القول، حتى إشعار آخر، إن الأمور تتحرك بما يخدم الحكومة الألمانية وبرنامجها. ذالك أن الائتلاف الحاكم حصل، الأحد الماضي، على دعم ملحوظ لسياساته، وذلك للمرة الأولى منذ الانتخابات النيابية الأخيرة التي جرت في سبتمبر الماضي، إذ تمكن من الفوز بمقاعد ولايات أساسية ثلاث هي بادن ورتنبرغ وساكسوني أنهالت وراينلاند بالاتينيت. وهو ما سيمنح ميركل وائتلافها حافزاً قوياً جداً للمضي في سياسة الإصلاح لأن الحكومة، بعد تلك الانتخابات، لن تواجه معارضة تُذكر في "البوندسرات"، أي المجلس الأعلى من البرلمان الذي يضمّ حكّام الولايات.
ولئن ركّزت ميركل، في الأشهر الماضية، على السياسة الخارجية، لاسيما علاقات بلدها مع جيرانه الروس والأوروبيين في الشرق، وهو ما عاد عليها بانتقادات في حزبها وبين رجال الأعمال شملت اتهامها بالتباطؤ في تنفيذ الإصلاحات، فأغلب الظن أن تؤول الانتخابات الفرعية الأخيرة إلى تعديل في الأولويات وتنفيذها. هكذا يُفترض التصدي لتطبيق البرنامج الذي يتناول الضمان الصحي ووضع حد أدنى للأجور يأتي مرفقاً، كما سبقت الإشارة، بتسهيل القدرة لدى أرباب العمل على ممارسة التسريح، فضلاً عن اعتماد نظام أكثر تعقيداً في النظام الفيدرالي يؤدي إلى تسريع اتخاذ القرارات على مستوى مركزي، ومن ثم تقليص صلاحيات الولايات في ممارسة الفيتو على القرار.
ويمكن القول عموماً إن مدى النجاح سيمتحن طاقة الائتلاف الحاكم (الذي ينشأ للمرة الأولى منذ 1969) على الصمود، والسؤال سيكون تحديداً: هل سيستطيع الشركاء الاشتراكيون الديمقراطيون حمل الطبقة العاملة على التعايش مع الإصلاحات بحد أدنى، أو مقبول، من الاعتراض، وبالتالي على التضحية ببعض مكاسب الرفاه الضخمة التي اشتُهرت الدولة الألمانية بتقديمها، من أجل إنقاذ الاقتصاد ككل؟
في هذه الغضون يمكن القول إن الأمر يختلف في فرنسا. فقد حُمل كثيرون، أمام المشاهد الباريسية الأخيرة، على استعادة أحداث مايو 1968 الطلابية الشهيرة التي أفضت إلى إنهاء ولاية الرئيس شارل ديغول، رغم كونه أحد أبرز تاريخيي الرؤساء الفرنسيين. والحق أن التشبيه ذاك لم ينجم فحسب عن نزول الجماهير الكثيف إلى الشارع، بل أيضاً عن الدلالة الرمزية التي حملها احتلال جامعة السوربون، قلب جامعات العاصمة، فضلاً عن أعمال العنف والشغب الأخرى.
بيد أن المراقبين الأشد نباهة بادروا إلى تقديم ملاحظة أعمق تتعدى التشابه في الشكل، مفادها الاختلاف العميق بين ما جرى ويجري في فرنسا الآن وبين ما حصل في 1968 مما أُطلقت عليه تسمية "الثورة الطلابية" أو "الشبابية". ذاك أن الأخيرة جاءت مناهضة للنظام، ليس السياسي أو التعليمي منه فحسب، بل كذلك للنظام العائلي- الأبوي الذي يرسو عليه المجتمع كما ترسو قيمه المحافظة وعاداته الاستهلاكية الموسّعة. وقد جاء هذا تعبيراً عن رغبة مؤكدة في الانشقاق عن التركيبة الرأسمالية، وهي رغبة نقلها وبلورها ما لا يُحصى من كتب وكتابات وجهود فكرية ونظرية، حتى ليجوز القول إن معظم المثقفين الكبار الذين هيمنوا على صناعة العقل الثقافي لفرنسا إنما دخلوا حلبة الأفكار من بوّابة مايو 1968.
وهذا ما لم يعد وارداً اليوم. ذا