لاحت عناوين معرض الكتاب، كأنها أنجم في سماء مفعمة بالكلام والأفكار والأحلام الحرة من كل هم. والجميع يتحدث عن الرقيب "الملكي الأكثر رقابة من الملك ذاته"، الرقيب الذي تراجع دوره كثيراً في مثل هذه المعارض.
ولعل الحديث عن الحرية والرقابة أتى بذكريات وأسئلة، كلما نشرت مقالاً لأفاجأ بسؤال من أين لكِ بهذه الجرأة؟
ليست جرأة، إنها الحقيقة التي تخافونها أنتم وتحسبونها من ضروب الممنوع: لا أذكر كم من السنوات مرت وأنا أنشر في هذا المكان دون أن يعود لي مقال مشطوب بالحبر الأحمر، لأنه تناول موضوعاً خارجاً عن رغبات الرقيب، بل ربما كنت أكتب دائماً برقيب داخلي، لكن ما أن تلمست السقف به حتى اكتشفت أنه سقف عالٍ جداً، كل ما يهمه أن لا أسيئ لأحد، لأنها لوائح صحفية لابد لها أن تحترم.
والأغرب تلك الأحاديث السوداء التي تدور خلفي وتأتي فجأة أمام عينيّ: "إنها مسنودة"... وأضحك كثيراً، لأن سندي في الدنيا هو ربي، وفكري بأن الوطن أهم من كل شيء وأي أحد. ورغم أنها أحاديث وهمية لكني أحياناً أؤثر الصمت، فيحسب الذي يسأل عن سندي أني لا أرغب في الرد لأنه حقيقة وواقع. وليكن حقيقة أزعم أنني لن ألوذ بأحد وسيجعلني أجفل خجلى من طلبي ورغبتي في الانتقاد.
فنحن من صنع سقفاً ليس بذاك الارتفاع، ونحن من رسم أسلاكاً شائكة وصدق أنها بينه وبين أفكاره.
ونحن من أعلن أنه مراقب وأنه مستهدف وهو لا يحمل أي صفة من صفات الأهمية أو القلق. والجرأة في الحق ليست جرأة، إنها واجب وحق ملزم ومسوح من إيمان وتصديق بقضية الوطن الأولى والأخيرة.
فلو تخلصنا من كوابيس الأوهام واعتبرنا أن الحرية لها مسؤوليتها وانتهى الرقيب من تعلقه بالمهنة، لرغبته في الإيذاء أو الخوف على كرسيه المتحرك لكان في الأمر شأن آخر.
وللأسى أن بعضا ممن امتهن حرفة القلم والدواة، يكتب ليخدم اسمه وذاته، ولا ينظر لأبعد من هذا، لذلك تحسبه أضعف من أن يكتب بصدق وبدمٍ وبحبٍ خالص دون شوائب.
إنه من الأساس بعيد عن الحب الأسمى، وعبد لرغباته ومطامعه التي لا توصله إلى أية جهة. وآخر يحسبها مصدر رزق لا أكثر، لذلك يكون كل ما يكتب مثيراً للتقزز والسخرية ويحوي قليلاً جداً من المعرفة بما يدور حوله.
سقف الحرية في هذه الصفحات عالٍ جداً وغير قابل للتمدد للأسفل، بقدر إمكانية رفعه أكثر وأكثر.
وهذا هو معرض الكتاب الذي تدور رحاه في أبوظبي، إنه فرصة تجليات إنسانية بلا مساومة، ولا حتى أسئلة الرهبة التي اعتادها قلم الرقيب ومقصاته.
سينجح المعرض وغيره من الأفكار لو فقط اكتفى البعض من تحديد ما يمكن أن يقال، ولو ابتعد هؤلاء المروجون لضمير الرقيب المقتول عند قارعة الحق، مهما كانت صدمته أو صوته المرتفع، ولو انسحب حارقو البخور من مثل هذه الفعاليات الجميلة بذاتها دون رتوشهم أو اتهاماتهم الجوفاء.