المعادلة التي طرفاها "نحن والآخر" أو "أنا والآخر" هي واحدة من نواميس هذا الكون. وبالتالي فهي معادلة وجدت، ولا تزال موجودة، وستبقى موجودة، ولا يمكن إلا أن تكون موجودة في حياة كل البشر، وفي كل المجتمعات، وكل الثقافات بغض النظر عن عوامل مثل الجنس، والدين، والانتماء القومي، واللغة. معادلة "الأنا والآخر" عابرة لكل هذه الحدود. بل إن معادلة "الأنا والآخر" موجودة حتى في الواقع الطبيعي. لكل تربة هناك تربة أخرى. وكل شجرة تقابلها شجرة أخرى. وفي مقابل كل نهر يوجد نهر آخر. ولكل مطر هناك مطر آخر...الخ. هذا في الواقع الطبيعي حيث لا وجود لعامل الإرادة. فما بالك بالواقع الاجتماعي، أو الواقع الإنساني حيث تلتقي عوامل الإرادة، والأهواء، والمصالح، والتاريخ، وتتفاعل مع قوانين الطبيعة.
هنا كان ولا يزال لكل إنسان إنسان آخر، وأمام كل مفهوم يوجد مفهوم آخر، وكل جماعة تقابلها جماعة أخرى. كل دين يقابله دين آخر، ومقابل كل سلطة هناك سلطة أخرى. كل ثقافة لها ثقافة أخرى، كل لغة توجد مع لغة أخرى، وكل دولة في مقابلها دولة أخرى...الخ. ماذا يعني كل ذلك؟ لا يمكن أن يعني إلا شيئا واحدا، وهو أن الاختلاف هو سُنة من أهم وأخطر سنن الحياة. والاختلاف يعني، ويفضي بالضرورة إلى التعددية، والتنوع. قامت وتقوم المجتمعات، والدول، والحضارات، من ضمن ما تقوم، على التنوع والاختلاف، والتعددية. لكنها أيضا تهاوت وسقطت لأسباب لها علاقة مباشرة برؤية الاختلاف والتنوع والتعددية، وطريقة التعاطي مع هذه البديهيات.
السؤال إذاً لا يتعلق بوجود مفهوم الأنا مقابل مفهوم الآخر. السؤال هو عن صيغة العلاقة بين الاثنين: ما مدى اعتراف هذه الثقافة أو تلك بمعادلة "الأنا والآخر"؟ كيف نفهم هذه المعادلة؟ كيف نتعامل معها؟ وكيف ننظر إليها؟ هل تعترف الـ"نحن" أو "الأنا" بـ"الآخر"، والعكس؟ هذا مع ملاحظة أن كلا من طرفي المعادلة هنا ليس ثابتاً في موقعه منها. على العكس "نحن" أو "أنا" تتحول لتصبح هي "الآخر"، حسب ظروف المكان والزمان، وطبيعة واتجاه العلاقة بين طرفي المعادلة، في الإطار الثقافي والسياسي الذي توجد فيه. وكذلك الطرف المقابل، أو الآخر، وحسب الظروف ذاتها، تتحول لتصبح هي "الأنا" أو الـ"نحن". مما يعني أن العلاقة بين المفهومين هي علاقة جدلية، ومتحركة دائما تبعا للحراك الثقافي والاجتماعي، والحراك السياسي أيضا.
وعليه ليس لعلاقة الأنا بالآخر صيغة واحدة. هي علاقة اختلاف: اختلاف في الرؤية، واختلاف في المصلحة، واختلاف في الانتماء، واختلاف في الفكر، واختلاف في الموقع، إلى آخر ما هنالك من اختلافات بين الناس. الإشكالية ليست هنا. فالاختلاف أمر طبيعي، ولا يمكن تفاديه. من الممكن تجاهل الاختلاف والتقليل من شأنه، ومن شأن المختلف. ومن الممكن قمع الاختلاف، وإرغامه على أن يتوارى عن الأنظار، إلا أن هذا لا يعني أبدا تلاشي الاختلاف. تكمن الإشكالية في مكان آخر، في مدى القبول بمشروعية الاختلاف، وبحق الآخر في أن يكون مختلفا، حتى وإن بدا مخطئا في اختلافه، أو حق الآخر في أن يخطئ، وحقه في أن يكون مقبولا كما هو، وليس كما يراد له أن يكون. هذا على المستوى الثقافي، ببعديه النخبوي والأنثروبولوجي، داخل ثقافة معينة. هل يعني القبول بهذه الصيغة للعلاقة اختفاء الصراع بين الأنا والآخر؟ لا أبدا، لأن الطموح، والأنانية، والتنافس خصائص طبيعية لدى الإنسان، وهي أحد مصادر معادلة "الأنا والآخر" ابتداءً. الصراع، والتنافس، صيغة أخرى من صيغ العلاقة بين طرفي المعادلة، داخل ثقافة معينة، وبين الثقافات أيضاً.
على مستوى العلاقة بين ثقافات ومجتمعات مختلفة، سواء انتمت إلى أطر حضارية مختلفة، أو إلى إطار حضاري واحد، يبدو الأمر أكثر تعقيدا من ذلك بكثير. حاول الكاتب الأميركي صامويل هنتينغتون أن يقدم الصورة على أنها صراع حضارات أو ثقافات. قد يكون محقاً في المعنى النهائي المتضمن في ذلك، لكن يجب ملاحظة أن مفهوم الحضارة أو الثقافة هو مفهوم مجرد، ومفهوم عام وشامل، يشتمل على ما هو ثقافي وما هو اجتماعي، وعلى ما هو مادي وما هو غير مادي. ويصعب في هذه الحالة تصور صدام يحصل بين حضارات. العلاقة بين الحضارات أوسع من ذلك بكثير، وتنطوي على الصراع، والتعاون، والتثاقف، والتبادل. الأكيد أن الصدام والصراع عندما حصل ويحصل بين الحضارات حصل بالمعنى الرمزي، وليس بالمعنى الحرفي. لأن صدام الحضارات حصل ويحصل من خلال كيانات ومفاهيم ترمز إلى هذه الحضارة أو تلك. حصل الصراع ويحصل بين الدول، وبين المؤسسات والجماعات، وبين الطبقات. بغير هذا المعنى، وفي هذا السياق تحديداً، لم يحدث صدام حضارات أبدا.
ماذا عن الدولة إذاً، حيث تلتقي عوامل التاريخ والسياسة والأيديولوجيا، وتفعل فعلها في صياغة معادلة "الأنا والآخر"، داخل الدولة، لكن بشكل خاص مع الآخر الخارجي؟ هنا، وعلى هذا المستوى، دائما ما تأخذ علاقة الأنا والآخر صيغة الصراع. ليس بالضرورة، وبشكل حصري الصراع العسكري في كل حالة، وإنما هناك صراع الم