"لم يكن أحد يستطيع التكهن بطول الحرب على العراق أو ميعاد انسحاب القوات متعددة الجنسيات منه". هكذا صرح وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد في إجابة على سؤال وجهته إليه إحدى الفضائيات العربية، وفي سياق سياسي أميركي تتصاعد فيه حدة الانتقادات للرجل وأدائه إلى درجة مطالبته بالاستقالة، وهو قول خطير يصدر عن رجل يتولى أخطر مهمة في العالم: إدارة القوات المسلحة للدولة العظمى. ولو صحّ كلامه فإن معناه الوحيد أن استخدام هذه القوة يتم على نحو شديد العشوائية، إذ يُزَجُّ بها في حرب لا تعرف لها أولاً من آخر الأمر الذي يعرض المصالح الأميركية للخطر ناهيك عن الضرر الذي يصيب الآخرين. فهل صحيح أنه لم يكن بمقدور أحد أن يتكهن بأمد الحرب في العراق؟
لو كان الرجل قال إن أحداً لا يستطيع أن "يجزم" بمدة الحرب لتفهمنا منطقه، ففي هذه الحالة نكون إزاء تصور عام عن حرب خاطفة أو قصيرة أو طويلة الأمد دون أن نقطع بدقة بطول هذا الأمد. لكن رامسفيلد ينفي أصلاً القدرة حتى على التكهن وهو ما يحتاج إلى وقفة تأمل، فلاشك أن التحليل السياسي يواجه صعوبات لدى القيام بمهمة التنبؤ، وبعض هذه الصعوبات يعود إلى نقص المعلومات عن عديد من الظواهر السياسية سواء لطبيعتها السرية أو لتشعبها المكاني وبالتالي تضعف القدرة على التنبؤ طالما لا يكون لدينا وصف دقيق للظاهرة موضع التحليل.
لكن من صعوبات التنبؤ ما يعود إلى اعتبارات ذاتية تتمثل أساساً في التحيز الشخصي، فأنت لا تستطيع أن تبصر الشيء رغم وضوحه لأنك ببساطة لا تريد أن تراه. لا تريد مثلاً أن تعترف بأن نظام الحكم الذي تناصره في طريقه إلى الانهيار لأنك بتحيزك الشخصي تستهين بالقوى المعارضة له، أو تسلم بأن دولتك سوف تُهزَم في حرب بسبب انتمائك الوطني.. وهكذا، مع أن الموضوعية كنقيض للتحيز تكون عادة هي السبيل لحماية "من تحب أو ما تحب" لأنك بهذه الموضوعية وحدها تستطيع أن تستكشف أسباب الخلل وقد تتمكن من الوصول إلى علاجها. ويضاف إلى صعوبات التنبؤ لعديد من صانعي القرارات غياب الأطر المعرفية الشاملة التي تمكنهم من أن يضعوا الموقف الذي يحاولون التنبؤ بمجراه المحتمل في سياق أعم يساعدهم على التوصل إلى أدق تنبؤ ممكن باستخدام الخبرة التاريخية الملائمة والمنهج المقارن.
ولنحاول بعد ذلك تفحص حالة السيد رامسفيلد الذي لم يكن يدري شيئاً عن أمد الحرب في العراق. ولنفترض أن مشكلة المعلومات غير واردة بالنسبة له أو على الأقل فإنها متاحة له بأكثر مما هي متاحة لأي مسؤول آخر في العالم، إذ يستطيع رامسفيلد أن يوظف عدداً من الأجهزة الرسمية ويستفيد بمنجزات مراكز بحثية محترمة في هذا الصدد، ومع ذلك فقد تابع جميع المراقبين المحايدين كيف كانت دوائر صنع القرار الأميركي تتلاعب بقضية المعلومات لخدمة هدف محدد مرده "تحيزها الشخصي"، إذ أنها كانت قد عقدت العزم على التهام العراق وبالتالي كان ضرورياً أن تُنْسَج القصص الخيالية حول ترسانة أسلحة دمار شامل يمتلكها وعن علاقة لحكامه السابقين بتنظيم "القاعدة" بما يبرر وضع العدوان عليه في سياق الحرب ضد الإرهاب.
كان المراقبون المحايدون يتابعون التطورات بدهشة وهم لا يصدقون أن هذا هو مستوى أداء الدولة العظمى في العالم، فإما أنك تدري –أي تعلم أن المعلومات التي تعرضها مغلوطة- فتكون المصيبة لأن معناها الوحيد أنك توظف معلومات فاسدة لكي تبرر بها قراراً سقيماً عقدت العزم على اتخاذه، وإما أنك لا تدري –أي لا تعرف أن البضاعة التي تعرضها فاسدة- فتكون المصيبة أعظم لأن المعنى الوحيد أن مسؤولي القوة الأولى في العالم يمكن أن يكونوا على تلك الدرجة من السذاجة بحيث يقعون ضحية معلومات خاطئة على نحو لا يقنع طفلاً.
لكن غيبة الإطار المعرفي الشامل المبني على الاستخلاص السليم لدروس الخبرة الماضية لا تقل أهمية في تفسير العجز الذي اعترف به رامسفيلد في تصريحاته عن استحالة تحديد أمد للحرب في العراق، إذ لم يكن بمقدوره وزملائه أن يعرفوا أنهم مقدمون على العدوان على شعب وليس مجرد تقويض نظام حكم، وأن فعل العدوان لابد وأن يولد المقاومة، وأنه في الحروب النظامية التي تخوضها دولة دفاعاً عن النفس يمكن أن تكون النهاية هي النصر، أما في الحروب التي تحتل فيها دولة أخرى فإن الأمر يختلف لأنه لم تحدث في التاريخ كله حالة احتلال واحدة لم تولد مقاومة، ولم يحدث في الخبرة المعاصرة لحركات التحرر الوطني أن أخفق أي من هذه الحركات في دحر الاحتلال ولذلك فإن العدوان وما يتلوه من احتلال قد يكون نهاية لحرب، لكنه في الوقت نفسه يكون بداية لحرب جديدة هي حرب تحرر وطني وجد السيد رامسفيلد نفسه بحق عاجزاً عن أن يتنبأ بأمدها لأنها من نوع مختلف لا تلعب موازين القوة المادية دوراً أساسياً في حسمه، وإنما تحسمه عوامل كثيرة منها عوامل معنوية تدور حول إرادة رفض الاحتلال وهو ما اعترفت به على استحياء بعض الدراسات النظرية الأميركية عندما لاحظت أن حروباً تدور بين قوى غير متكافئة بوضوح كانت دائما