الفكرة التي تقول إن الرئيس الليبي معمر القذافي عندما رأى القوات الأميركية وهي تغزو العراق، قال لنفسه إن الآلة الأميركية قد أصبحت جاهزة، وإن الدور لا بد آت على ليبيا، فكرة ظريفة وساذجة في الآن ذاته. بيد أن الحقيقة غير ذلك . فالأحداث التي قادت ليبيا إلى الإعلان المفاجئ في التاسع عشر من شهر ديسمبر الجاري عن التخلي عن كافة برامجها الخاصة بأسلحة الدمار الشامل، أكثر تعقيدا وتشابكا من ذلك، علاوة على أنها امتدت لفترة زمنية أطول مما يعتقد الكثيرون.
لعله من المعروف أن ليبيا والولايات المتحدة كانتا في حالة حرب غير معلنة منذ عام 1981، وتحديدا عندما قامت المقاتلات النفاثة الأميركية بإسقاط طائرتين ليبيتين فوق منطقة المياه المتنازع عليها في البحر الأبيض المتوسط. وردا على ذلك قام القذافي بالانتقام بشن هجمات إرهابية في روما وفيينا. وإثر ذلك قامت الولايات المتحدة الأميركية بمقاطعة البضائع الليبية. وفي عام 1986، أمر الرئيس الأميركي رونالد ريجان بقصف المعسكر الذي يضم المقر السكني للرئيس الليبي مما أسفر عن مصرع 37 شخصا، وذلك ردا على الهجوم الإرهابي الذي دبرته المخابرات الليبية على مقهى في برلين الغربية، وأدى إلى مصرع جنديين أميركيين كانا موجودين في المقهى . وفي عام 1988 وصلت الضربات والضربات الانتقامية المضادة بين الطرفين إلى ذروتها، عندما قام عملاء الاستخبارات الليبية بتفجير طائرة (بان أميركان) رحلة 103 فوق بلدة (لوكربي) الاسكتلندية، مما أدى إلى مصرع جميع ركابها البالغ عددهم 270 شخصا. بعد سقوط حائط برلين، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، بدا العالم يظهر بشكل مختلف. في عالم ما بعد الحرب الباردة بدأ القذافي من جانبه يمد خطوط استشعار تصالحية. وفي سياق ذلك قام بتسليم عميلين للمخابرات الليبية اعتبرا مسؤولين عن حادث إسقاط طائرة (بان أميركان) فوق البلدة الاسكتلندية· وفي نهاية المطاف وفي خطوة غير متوقعة، لفتت انتباه العالم بأسره وافق الرئيس الليبي على دفع مبلغ قيمته 2.7 مليار دولار أميركي تعويضا لعائلات ضحايا حادث إسقاط الطائرة المذكورة.
وقرب نهاية حقبة التسعينيات من القرن الماضي، كان القذافي قد بدأ في شن هجوم سلام شامل. ففي مقابلة له مع المؤلف (ميلتون فيورست) الذي يعمل في مجلة (فورين أفيرز) السياسية الأميركية ذائعة الصيت، قال القذافي في معرض تعليقه على الإرهاب: (إن كل تلك الأشياء -يقصد الهجمات الإرهابية والعمليات الانتقامية- قد أصبحت شيئا من الماضي... إنها تعبير عن عهد مضى وانقضى زمنه...). وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر على برجي مركز التجارة في نيويورك وعلى مبنى البنتاجون في واشنطن، ألقى القذافي خطابا عبر فيه عن تعاطفه مع الولايات المتحدة، وأكد على ضرورة الحاجة إلى (إزالة الأخطار المشتركة بالنسبة لنا والتي تتمثل في التطرف والإرهاب الدولي ). ولم يكتف الرئيس الليبي بذلك، بل تطوع بتقديم معلومات استخباراتية إلى أميركا لمساعدتها في نطاق حربها ضد الإرهاب العالمي التي أعلنها الرئيس بوش. ولكن موضوع تأهيل ليبيا ورفع العقوبات، وصل في النهاية إلى ضرورة قيام ليبيا بالتخلص من مخزونها من أسلحة الدمار الشامل·
في البداية قالت ليبيا إنه لا توجد لديها أي أسلحة دمار شامل، كما تغاضت عن التصريح بأن لديها برامج نووية وكيماوية عاملة على رغم أن هذا أمر معروف. بعد ذلك جاء الاختراق في لقاءات سرية بين ضباط استخبارات بريطانيين وأميركيين، وبين مسؤولين ليبيين طالب فيها البريطانيون والأميركيون ليبيا بضرورة الموافقة على إجراء تفتيشات غير مشروطة على منشآتها حتى يتأكدوا من صدق مزاعمها· وبعد اللقاءات المتوترة بين الجانبين ، وافقت ليبيا في النهاية على ذلك الطلب.
ولم يقتصر الأمر، على ذلك بل إن ليبيا نفسها سارعت بالإعلان عن تخليها عن برامجها الخاصة بانتاج أسلحة الدمار الشامل وفتح منشآتها بلا قيد ولا شرط أمام التفتيش، تاركة للرئيس بوش ولرئيس الوزراء البريطاني توني بلير، مهمة التعليق على خطوتها، والتعبير عن سرورهما بها.
إن العقيد القذافي، الرجل الذي كان يقال عنه دائما إنه غريب الأطوار، استطاع أن يدرك أن اتجاه الريح قد تغير في عالم ما بعد الحرب الباردة. ويا ليت صدام حسين قد فعل مثله!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة (كريستيان ساينس مونيتور)