في القرن الخامس قبل الميلاد، كتب الطبيب اليوناني الشهير "أبوقراط" عن مرض مميز، يتعرض المصابون به لتشنج في معظم عضلات الجسم، وارتسام ضحكة شريرة غريبة على وجوه المرضى، تنتهي بوفاتهم. وفي بعض الأحيان تصل قوة التشنج إلى درجة أن العضلات تتمزق، وتتكسر معها العظام، بسبب قوة شد العضلات المتشنجة. هذا المرض هو التيتانوس (Tetanus)، والذي يطلق عليه أحياناً في اللغة العربية اسم (الكُزاز)، بسبب أن تشنج عضلات الفكين يجعل المريض يبدو كما لو كان يكز على أسنانه. ومنذ أن كتب "أبوقراط" عن هذا المرض، لم يستطع الأطباء على مدار أكثر من أربعة وعشرين قرناً، التوصل إلى سببه، إلى أن تمكن طبيب ألماني يدعى Emil von Behring في نهاية القرن التاسع عشر من عزل أول مزرعة من الميكروب المسبب للمرض، وهو الاكتشاف الذي مهد لفوزه بأول جائزة من جوائز نوبل في الطب على الإطلاق. ولكن رغم هذا الاختراق، وما تبعه لاحقاً من تطوير لقاح فعال، لا زال التيتانوس مشكلة صحية خطيرة في الدول الفقيرة، حيث يصيب أكثر من مليون شخص سنوياً، مسبباً وفاة ما بين 300 ألف إلى 500 ألف شخص حسب بعض التقديرات، غالبيتهم من كبار السن والأطفال حديثي الولادة. ومثله مثل الكثير من الأمراض الناتجة عن العدوى بالميكروبات، تنتج أعراض التيتانوس من جراء السموم التي تفرزها البكتيريا، كجزء من مخلفات العمليات الأيضية بداخلها. وتصنف السموم التي تنتجها بكتيريا التيتانوس، على أنها سموم عصبية (neurotoxin)، أي أنها تصيب الأعصاب وتسبب تسممها. ولا ينتقل التيتانوس من شخص إلى آخر، حيث تحدث العدوى غالباً نتيجة تلوث جرح غائر بالميكروب، والذي يتواجد في التربة، وفي براز الحيوانات، مثل براز الخيول والأغنام والماشية والدواجن والقطط والكلاب، وأحياناً أيضاً ما يتواجد الميكروب على الجلد أو تحت الأظافر لكل من الإنسان والحيوان. هذه الميكروب يمكنه أن يدخل الجسم أيضاً بسهولة، عبر الجزء المتبقي من الحبل السري بعد الولادة، وخصوصاً إذا ما تمت الولادة في ظروف غير مثالية. ويوجد اعتقاد شائع وخاطئ ينتشر بين العامة، ويتعلق بوجود علاقة بين الإصابة بالمرض والجروح الناتجة عن الأجسام الصدئة، وخصوصاً المسامير الصدئة. فالصدأ في حد ذاته لا يسبب الإصابة بالتيتانوس، ولا يحتوي حتى على قدر أكبر من البكتيريا المسببة له. وما يحدث هو أن الأجسام التي تصاب بالصدأ، غالباً ما توجد في الأماكن المكشوفة، أو الأماكن التي تحتوي على مقادير أكبر من البكتيريا بجميع أنواعها. وبما أن البكتيريا التي تسبب التيتانوس هي بكتيريا لا هوائية (anaerobic)، أي تعيش وتزدهر في الأماكن التي ينعدم فيها الهواء، يوفر الصدأ الذي يعتلي بعض الأجسام بيئة مثالية تكمن فيها بثور البكتيريا. هذه البثور تظل في حالة من انعدام العمليات الحيوية (شبه اللاحياة)، إلى أن تصل إلى بيئة مناسبة مثل البيئة الموجودة داخل جرح غائر، وساعتها تبدأ في النمو والازدهار مسببة العدوى والمرض. وتظهر أعراض التيتانوس لدى البالغين بعد فترة حضانة، تتراوح ما بين ثلاثة أيام إلى خمسة عشر أسبوعاً، أو ثمانية أيام في المتوسط. أما لدى الأطفال حديثي الولادة، فتتراوح فترة الحضانة ما بين أربعة أيام إلى أربعة عشر يوماً، أو سبعة أيام في المتوسط. وبوجه عام، كلما بعُد مكان الجرح الذي دخلت من خلاله البكتيريا عن الجهاز العصبي المركزي (المخ والحبل الشوكي)، كلما طالت فترة الحضانة. والسبب في هذا، هو أن بُعد مكان الجرح عن الجهاز العصبي المركزي، يؤخر وصول سموم البكتيريا إلى المخ، ويطيل من الفترة بين حدوث العدوى وبين ظهور الأعراض. وتوجد أيضاً علاقة عكسية بين فترة الحضانة وبين احتمالات الوفاة من التيتانوس. فكلما طالت فترة الحضانة، كلما زادت فرص النجاة من المرض، والعكس صحيح. ومما لاشك فيه أن التيتانوس ينفرد بواحدة من أكثر الصور الإكلينيكية تميزاً، من حيث الأعراض والعلامات. أول تلك العلامات يظهر على شكل تشنج بسيط في عضلات الفك –مثل الكز على الأسنان- يتبعه تصلب في عضلات العنق والظهر، ثم تشنج عضلات الوجه، مانحاً المصاب وجهاً ترتسم عليه نظرة دهشة وضحكة شريرة (risus sardonicus). وبتطور المرض، تبدأ عضلات الجسم في التشنج تباعاً من الرأس إلى أخمص القدمين، مسببة صعوبة في البلع، وتصلباً في عضلات البطن. ويستمر هذا التشنج لثلاثة أو أربعة أسابيع، وإذا ما كان المصاب حسن الحظ، فيتماثل للشفاء بعدها، وإن كان الشفاء التام قد يستغرق عدة شهور. أما سيئو الحظ، فإما أن يصابوا بتلف شديد في المخ، بسبب انقطاع الأوكسجين أثناء نوبات التشنج، أو أن يلقوا حتفهم بسبب توقف التنفس أو هبوط القلب. ولذا، وفي القرن الحادي والعشرين، لا زال هذا المرض البدائي يقتل حوالى 30% من ضحاياه، وهي النسبة التي ترتفع إلى 60% في الدول النامية. هذا على الرغم من توفر تطعيم فعال ضد المرض، كجزء من التطعيم الثلاثي ضد التيتانوس والدفتيريا والسعال الديكي. أما الحالات التي حدثت فيها الإصابة، فيمكن علاجها باستخدام المضادات الحيوية، أو الأجسام المضادة لسموم التيتانوس، وهو ما من شأنه أن يقي الكثير من المصابين لقاء نهاية محتومة ومفزعة.