منذ أن بدأت حكومة شارون بتهديد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، بالحصار أو النفي أو الاغتيال، لم تبد الإدارة الأميركية موقفاً معارضاً لها، بل كان الثابت في كل التصريحات الأميركية: لا نرى فائدة الآن هذه الخطوة لا تخدم السلام الآن ! يعني أن المسألة هي مسألة التوقيت وليست مسألة المبدأ· وتطور هذا الموقف ليعطي قوة للارهابيين الإسرائيليين لممارسة مزيد من التهديد لعرفات عندما رُفع شعار: إن عرفات هو جزء من المشكلة وليس جزءاً من الحل! وراح الإسرائيليون يكررون هذا الشعار كلما تناولوا دور وموقع ومسؤولية الرئيس الفلسطيني· وفي الوقت ذاته يتحدث الأميركيون عن الديمقراطية وحقوق الانسان ومكافحة الارهاب والفساد ويصنفون الدول في مراتب ومواقع معينة حسب احترامها لهذه العناوين وفق المعايير الأميركية· وفي هذا الإطار يمكن تسجيل الملاحظات التالية، التي تثبت سياسة الكيل بمكاييل عدة من قبل الأميركيين، وسياسة اعتماد ثابت واحد، هو مصلحة الإدارة الأميركية واسرائيل·
ففي مجال الديمقراطية، تطالب الإدارة بانتخابات حرة، وبحكومات ممثلة للشعوب فعلياً انطلاقاً من هذه الانتخابات وتحظى بشرعية حقيقية! وعندما طالبوا السلطة الفلسطينية بذلك، وقبل أن تبادر إلى تحديد موعد الانتخابات الرئاسية كان تهديد أميركي للشعب الفلسطيني يقول: إذا أعدتم انتخاب عرفات فلا تتوقعوا مساعدات !
أين هي حرية الشعوب؟
وهل تتكرس الديمقراطية عندما تُسقطُ أميركا بتدخل مباشر أو غير مباشر هذا الرئيس أو هذا النظام في مواقع عديدة في العالم ومنذ عقود من الزمن، أو عندما تنصب رئيساً، أو عندما تصادر حرية الشعوب؟ وما هي الانتخابات التي يطالبون بها إذاً؟
ومع ذلك، جرت الانتخابات واختار الشعب الفلسطيني رئيسه ياسر عرفات الذي حظي باعتراف دولي حتى من الذين ينتقدون سياسته انطلاقاً من أن وجوده يعود إلى خيار الشعب الفلسطيني· وبالفعل مارست إسرائيل حصاراً وتهديداً لعرفات، وغطتها أميركا، فهل تكون بذلك تحترم الديمقراطية؟
هل تتكرس الديمقراطية بفرض شروط على تشكيل حكومات هنا وهناك، وبفرض وزراء في الحكومات في مواقع معينة، وإذا جاءت الخيارات مخالفة للتوقعات مارست أميركا أيضاً دور المحاصر والمهدد والداعم المطلق لإسرائيل ضد الفلسطينيين تحت شعار ان الإدارة الأميركية تتفهم حاجة إسرائيل إلى الأمن؟
أليس ثمة حاجة لدى الفلسطينيين إلى الأمن؟ أليس ثمة حاجة انطلاقاً من ذلك للمنطقة كلها إلى الأمن والاستقرار؟
ولماذا قطع المساعدات عن الفلسطينيين والوصول إلى مرحلة التفكير واتخاذ القرار بالغاء الأونروا بحجة أن فيها فساداً وان أموال السلطة الفلسطينية مشبوهة، أو تصرف بطريقة تثير الكثير من علامات الاستفهام· ولا نسمع ملاحظة عن دعاوى الفساد المعلقة والمعروفة المقامة ضد رئيس حكومة إسرائيل آرييل شارون وابنائه والتي تثير نقاشاً كبيراً داخل إسرائيل نفسها؟
ألا يطرح هذا الأمر تساؤلاً حول مفهوم المسؤولين الأميركيين للفساد وصدقيتهم في مكافحته لا سيما أن ملفات فساد كثيرة تثار في الولايات المتحدة نفسها وتتحدث عن تورط مسؤولين أميركيين كبار في عمليات فساد مختلفة عبر شركات كبرى معروفة؟
وهل تخدم التوجهات الأميركية الداعمة لاسرائيل عملية السلام وإمكانية التوصل إلى اتفاق واسرائيل تسقط كل الاتفاقيات والخرائط وتزرع الطرق بشتى أنواع الألغام والمتفجرات؟ وإلى أين يمكن ان تؤدي هذه السياسة؟ أليس إلى وجود شبه إجماع دولي ضد طرد الرئيس الفلسطيني وصولاً إلى حد التصويت في مجلس الأمن على قرار يرفض الطرد واستخدام أميركا الفيتو في وجهه؟ فانهالت الاتصالات على الرئيس الفلسطيني من كل حدب وصوب تستنكر ما يجري وتشيد بصموده وتؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وتحقيق هدفه في دولته المستقلة على أرضه المستقلة واستناداً إلى القرارات الدولية! وبطبيعة الحال ليس كل المتصلين بعرفات اصدقاء أو أحباء له أو مؤيدين لسياسته، بل كثيرون منهم كانوا على خلاف معه وحملوه ويحملونه مسؤولية الكثير من الأمور في قيادته مسيرة شعبه الفلسطيني وفي مراحل مختلفة·
غريب أمر الأشخاص أو الإدارات وأصحاب القرار الذين لا يتعلمون من التجارب ولا يستفيدون من الفرص، بل يستمرون في ارتكاب الأخطاء ومراكمتها وافتعال الأزمات· فهذه السياسة الأميركية-الإسرائيلية الاستفزازية المهددة للسلام لا تزال تهدر فرصاً وتدفع الأوضاع إلى مزيد من التعقيد· بالأمس اتخذ الاتحاد الأوروبي قراراً بادراج حركة حماس على لائحة الإرهاب، والأردن جمد حسابات واتخذ قراراً بتجميد التعاطي مع الشيخ أحمد ياسين، ودول أخرى اتخذت خطوات وقرارات كان يمكن لأميركا ان تستفيد منها وأن تمارس ضغطاً على إسرائيل لمنعها من اتخاذ خطوات تحرج الجميع· ولكن الواقع مخالف لذلك فهم لا يريدون خطوات من هذا النوع على ما يبدو والدليل هو الموقف من قرار إبعاد عرفات والتصويت ضد إدانته ورفضه في مجلس الأمن وبالتالي إحراج كل الدول ودفعها إلى مزيد من الاستنكار لهذه السياسة وابدا