لم يكن من المفترض أن يكون السلام العالمي هكذا. كان المفترض أن يكون أكثر سلاماً مما هو عليه اليوم. غير أن عناوين الصحف حول القنابل والتفجيرات والصراع في الشرق الأوسط تحجب ظاهرة عالمية لافتة تتمثل في أن الدمار القديم الذي تخلفه الحرب قد اختفى، على الأقل في ما يتعلق بالحروب التي تجمع بين جيش نظامي وآخر. ذلك أن الأسبوع الماضي شهد مرور 1000 يوم متتابعة خالية من الحروب بين الدول، وذلك منذ ليلة نوفمبر 2003 عندما أبرمت الهند وباكستان اتفاقاً على وقف إطلاق النار. وبذلك تكون هذه أطول حلقة من السلام ما بين الدول منذ أكثر من نصف قرن. صحيح أن أنواعاً أخرى من الصراعات ما زالت مشتعلة في مناطق مختلفة من العالم، غير أنها ليست حروب حكومات ضد حكومات. ففي شلال الدم الذي شهدته لبنان وإسرائيل على سبيل المثال، لم تقم الحكومة اللبنانية بأي عمل عسكري للدفاع عن أراضيها بالرغم من أن بعض قواعدها تعرض لإطلاق النار. وفي العراق، لم تقم أي حكومة في العالم بإرسال جنودها من أجل دعم المتمردين. وهكذا، فقد انتهت مرحلة الحرب التي كانت تجمع ما بين دولتين منذ أكثر من ثلاث سنوات عندما قامت الولايات المتحدة وحلفاؤها بخلع نظام صدام حسين. وبالرغم من الأعمال الوحشية في دارفور وأماكن أخرى من العالم، فإن عدد الحروب الأهلية قل وتقلص. حيث انخفض عدد الصراعات الأهلية بنحو الثلث أو أكثر في أواخر التسعينيات، بعد أن ارتفعت بشكل مضطرد على مدى نصف قرن. ونتيجة لذلك، يمكن القول إن العالم اليوم هو أكثر سلاماً مقارنة مع نحو اثني عشر عاماً خلت، عندما دفعت المذابح في رواندا والبلقان إلى توقعات متشائمة حيال المستقبل. الواقع أنه بالرغم من انتشار السلام العالمي، نظل مسكونين بالصراع الدولي؛ حيث دعت الأمم المتحدة على سبيل المثال إلى التزام هدنة أوليمبية تقليدية خلال الألعاب الشتوية في مدينة تورين بإيطاليا، وذلك بالرغم من حقيقة أنه لم تكن ثمة بلدان تقاتل بعضها البعض. قد يبدو من الصعب التوفيق بين مفهوم السلام العالمي والحملات الدموية للجهاد والحرب على الإرهاب؛ غير أن العنف السياسي الذي نراه اليوم، حسب المتخصص في العلوم السياسية جون مولر، ليس سوى "بقايا الحرب"، التي عادة ما تجمع عصابات صغيرة من المجرمين والمرتزقة والإرهابيين. وتعد هذه الصراعات عادة أقل تدميراً بكثير من الصراعات التي تجمع بين الدول؛ ذلك أن معدل الإصابات في الصراع القائم في العراق مثلاً ما زال - حسب موقع إحصاء الموتى في العراق على شبكة الإنترنت- دون معدل الإصابات المسجل خلال الحرب التي أفضت إلى إسقاط صدام حسين في ربيع 2003. وحسب استراتيجية الأمن القومي التي وضعها الرئيس الأميركي جورج بوش، لم تعد الدول الأكثر قوة في العالم هي مصدر التهديدات الرئيسية المطروحة بالنسبة للولايات المتحدة. وإنما هي اليوم دول ضعيفة ومعزولة مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا ومنظمات مثل "القاعدة"؛ إذ يظل الإرهاب تهديداً عالمياً على غرار الاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة– غير أنه في غياب صواريخ وقوات وميزانية تصل إلى مليارات الدولارات، فإن الصراعات التي نواجهها اليوم لا تهددنا بالقوة التدميرية المركزة والهائلة التي قد تمتلكها بعض الدول. ومع ذلك، فإن إحساسنا بانعدام الأمن ما فتئ يزداد ويتقوى حتى في ظل تقلص مستوى التهديد. فرغم أن حظوظ موت الأميركيين في حادثة مرور مثلا هي أكبر بكثير من الموت في هجوم انتحاري، غير أن السياسيين لا يسعون لإظهار صرامتهم بخصوص السلامة على الطرق. وبالمقابل، عاد الظهور بمظهر الصارم حيال القضايا الأمنية ليصبح موضة من جديد، وهو ما يزيد من إشاعة أجواء التهديدات وتغيير أولويات البلاد. وفي هذا السياق، أيد "الجمهوريون" مراكز الاعتقال السرية التي تضعف قيم الحرية الفردية الأميركية؛ وعارض "الديمقراطيون" أن تتولى شركة عربية إدارة الموانئ باسم الأمن القومي، وبالتالي اعتماد تصنيفات تمييزية عرقية يكرهونها عادة. في ظل تراجع الحروب بين الدول، ضاعفنا "حروبنا" المجازية ضد المخدرات، والجريمة، والإرهاب بصفة خاصة. الأكيد أنها مشكلات خطيرة، غير أنها لا تطرح خطر الحرب الذي تطرحه الحرب بين الدول. وفي ما يبدو مفارقة كبيرة، قد يدفعنا السلام العالمي إلى تحويل هذه الحروب غير الحقيقية إلى حروب حقيقية. ذلك أنه من المرجح، في ظل غياب تهديدات خطيرة من دول أخرى، أن تستعمل الولايات المتحدة القوة العسكرية لمعالجة أهداف أخرى. وقد يؤدي التعامل مع هذه التهديدات بمقاربة عسكرية إلى صراعات مع دول أخرى، وبالتالي إلى حروب حقيقية. فقد أدت بنا الحرب على المخدرات مثلاً إلى الصراع الأهلي المعروف في كولومبيا. وأدت بنا الحرب على الإرهاب إلى غزو العراق، وإلى المساهمة في بدء صراع جديد في الصومال، حيث وفرنا الدعم لأمراء الحرب الذين يزعمون أنهم يحاربون عناصر تنتمي إلى تنظيم "القاعدة". الواقع أن بقايا الحرب قبيحة وفظيعة، وعلى العالم أن يعالج العنف الجماعي حيثما ظهر. غير أن التوجه العالمي الحالي يبعث على الأمل والتفاؤل في حال استطعنا تلافي صنع الحروب مما يبدو أنها مشكلات ولكنها ليست كذلك في الواقع. فربما آن الأوان لأخذ نفس طويل والتوقف من أجل الاستمتاع بالسلام العالمي. تشارلز كورزمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ علم الاجتماع والدراسات الإسلامية بجامعة نورث كاليفورنيا ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ نيل إينغلهارت أستاذ العلوم السياسية بجامعة "بولينغ غرين ستيت" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور