تتعاظم العاصفة السياسية في أعقاب تصريحات إيهود أولمرت في صحيفة (يديعوت أحرونوت) التي أعلن فيها -ضمن أمور أخرى- تأييده للانسحاب من طرف واحد وإخلاء العديد من المستوطنات. والخطة السياسية لإيهود أولمرت تتضمن إخلاء (50) ألف مستوطن من عشرات المستوطنات في أرجاء (يهودا والسامرة) وغزة. ومع أن أولمرت امتنع عن الدخول في تفاصيل خطته، إلا أن بعض المحافل السياسية قالت إن الحديث يدور عن إخلاء عشرات الآلاف من المستوطنين من عشرات المستوطنات، ومن أجزاء في شرقي القدس، وتقسيم (أرض إسرائيل) إلى دولتين تفصل بينهما حدود لا تقوم وفقا للتركيبة السياسية والعواطف القومية، وإنما بناء على الديموغرافيا· وأولمرت الذي ينادي بهذا الطرح الآن، هو نفسه أولمرت تلميذ جابوتنسكي وبيغن وكان دائما من الصقور الذين ينادون بـ(وحدة البلاد الإقليمية تحت زعامة إسرائيل المتفردة) وهو الذي كان من أشد أعداء فكرة تقسيم القدس مرة أخرى. من المؤكد أن (صحوة بعض الضمير)، ليست هي السبب وراء (انقلاب) أولمرت فكريا بهذه الحدة! كما أن (الانقلاب) ليس ناجما عن تعاطف مفاجئ مع الفلسطينيين ومحنتهم. فالحجة التي يقدمها أولمرت لتبرير (تحوله) الأيديولوجي-السياسي هي أن الفلسطينيين سيكونون هم الأغلبية في فلسطين الانتدابية بحيث لا يمكن للأقلية اليهودية أن تحكمهم إلا إذا تخلت عن الديمقراطية وفرضت نظاما مكشوفا من التفرقة العنصرية على نمط جنوب إفريقيا سابقا. وكنتيجة لهذا الكابوس الديموغرافي الذي يؤرق أولمرت، كما يؤرق غيره من منظري إقامة (دولة إسرائيل التوراتية)، فإن أولمرت يقترح حدودا معينة بحيث يكون (80%) من مواطني الدولة العبرية يهودا و(20%) عربا، وهي التركيبة السكانية لإسرائيل اليوم من دون الأراضي المحتلة في عام 1967· وحسب المصطلحات المعتادة في الليكود، تمثل هذه التصريحات مغامرة سياسية هائلة (حولت) أولمرت من صقر ليكودي متطرف إلى (عدو) للمعسكر الأقرب له حتى في حزبه الليكود. أما بالنسبة لـ(المفدال) وأحزاب أقصى اليمين الأخرى المشاركة في الائتلاف الحكومي فهي تصريحات ترقى، أو بالأحرى تهبط، إلى مستوى (الخيانة)! وبذلك، يكون أولمرت قد قطع مسافة منذ أن بدأ حياته السياسية في حركة شعارها (لا لإعادة أي شبر) وصولا إلى ما ينادي به اليوم. وهي (نقلة) ليست بالبسيطة بالنسبة لرجل مثل أولمرت، ولمعتقداته، ولانتمائه الأيديولوجي والسياسي.
هل تمثل تصريحات أولمرت رأيا شخصيا أم أنها تمثل اتجاها بدأ يتبلور داخل الليكود واليمين بشكل عام مفاده بأن على إسرائيل أن تقدم (التنازلات المؤلمة) التي لا بد منها للحفاظ على (أمن إسرائيل وسلامتها)؟ أولمرت ينفي أنه ناطق بلسان شارون وإن كان دائما يعتبر نفسه حليفا سياسيا له وأراؤه لا تتوافق بالضرورة مع رئيس الوزراء دائما ولكن بعض المراقبين يعتقدون أن مواقفهما تكمل بعضها بعضا! فشارون يطلق تلميحات وبالونات اختبار فيأتي أولمرت ليفسرها ويزيد عليها ويدفعها إلى الأمام أكثر من شارون ويشدّه إليه. وفي هذا السياق، يدعي أولمرت بأن مواقفه الأخيرة جاءت بدون تنسيق مسبق مع شارون لكنه في الوقت نفسه يدافع عنه. وشارون الذي كثيرا ما يتهم بأن تنازلاته (المؤلمة) هي إعلامية فقط وللاستهلاك المحلي لا يجد أفضل من أولمرت للدفاع عنه، وبخاصة أن هذا الأخير كان قد أكد بأن (إسرائيل لم تشهد رئيس وزراء قام بحركة انقلابية فكريا وعاطفيا مثل شارون ابتداء من موقفه من المستوطنات إلى قبوله بخريطة الطريق). بل إن شارون، حسب تعبيرات أولمرت، اجتاز (الخطوط الأيديولوجية لليكود).
ما يهمنا من تصريحات أولمرت هو تأثيرها على الائتلاف الحاكم وموقعها في التشققات التي حدثت في الجدار اليميني الأيديولوجي والسياسي والحياة السياسية في الدولة الصهيونية بشكل عام. فالغضب الأكبر من تصريحاته جاء، أول ما جاء، من اليمين. فرئيسا حزبيّ الاتحاد الوطني والمفدال، الوزيران ابيغدور ليبرمان وإيفي إيتام، حذرا من أن (الحكومة لن تعيش ليوم واحد إذا خرجت السيناريوهات الخطيرة لإيهود أولمرت من نطاق الأقوال إلى نطاق الأفعال)! وأعرب نواب في الليكود عن الغضب الشديد من أقوال أولمرت قائلين إنه (يساري!) أما نائب أولمرت في وزارة التجارة والصناعة (ميخائيل ريشون) فقد قال إن موقف أولمرت يعبر عن (يأس مطلق وتنازل نهائي عن إمكانية الحوار مع الفلسطينيين). أما أعضاء مجلس (المستوطنين) في الأراضي المحتلة (يشع)، فقد هددوا بإسقاط الحكومة إذا ما اتخذت قرارا بإخلاء أي موقع استيطاني مأهول. ومن جهته، فإن رئيس مجلس المستوطنين ليبرمان قال إن أولمرت (قد فقد حقه في أن يكون قائما بأعمال رئيس الوزراء وإذا ما تبين بأنه قال ذلك كجزء من بالون اختبار من رئيس الوزراء فستشن حرب إبادة سياسية ضد شارون). أما الوزير تساخي هنغبي (من تكتل الليكود) فقد قال إن (مبادرة الانفصال من طرف واحد خطيرة على مستقبل دولة إسرائيل أكثر من مبادرتيّ أوسلو وجنيف)!
وبالتوازي مع هجوم اليمين الكاسح ضد أقوال أولمرت، فإن