لست في حاجة هنا إلى التدليل على أهمية وخطورة البحث العلمي في حياة الأمة، لأن هذا الأمر أصبح من أساسيات التقدم والرقي والقوة في حضارة الأمم· هناك ميزانيات ضخمة في كل مؤسسة تخصص فقط لهذا الجانب والهدف في النهاية هو (القياس والتنبؤ) بحالة الفشل أو النجاح التي قد يصادفها هذا المشروع أو ذاك· وتصوروا معي كيف تكون حالة المؤسسة إذا نشرت دراسة أو تحقيق أو حتى خبر صحفي في إحدى المجلات أو الصحف أو الدوريات العلمية يشير إلى أن هناك خللاً خطيراً في هذا المشروع أو تلك الرؤية· تحدث (هزة) عنيفة في داخل المؤسسة وتتحول العناصر البشرية في داخلها إلى خلايا متحركة ولجان عمل تبحث وتتقصى حتى تتأكد من مصداقية ما نشر· وفي بعض الأحيان يصل الأمر إلى تغيير كبير في قيادة المؤسسة وجهازها الإداري إذا كان الأمر صحيحاً مئة في المئة·
على مستوى الوطن العربي هناك إدراك الآن بأهمية هذا الموضوع في عملية الإصلاح والتغيير والتنمية، وأذكر مثلاً أن مجلة (الأهرام العربي) نشرت في عددها الصادر في 8/11/2003 تحقيقاً بعنوان: (تلاميذ كفر الدوار فضحوا وزارة التربية والتعليم)· يقول التحقيق: (إن 30% من تلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية أميون لا يجيدون القراءة والكتابة وحصلوا على صفر في امتحان إملاء تحريري...)... وأرسل وزير التربية المصري د· حسين بهاء الدين لجاناً عديدة لدراسة الحالة والتأكد من مصداقية ما نشر ولم يكتفِ بذلك بل إنه قام بعمل مقابلة خاصة مع المجلة للرد على كل ما جاء في التحقيق· وأوضح للرأي العام المصري استراتيجيته في علاج هذه المشكلة·
وفي الكويت نشرت جريدة (القبس) دراسة على حلقات بعنوان (المناهج الكويتية أمام ساعة الحقيقة) انتقد من خلالها د· فوزي أيوب جوانب الخلل العديدة في المناهج الكويتية· كان رد فعل وزارة التربية الكويتية الإشادة بالدراسة وصاحب الدراسة ورسالة شكر لصحيفة (القبس) لأنها نشرت الدراسة· وقد نشرت الرسالة في الصفحة الأولى من صحيفة (القبس) الصادرة في 3/1/2003·
الأمر عندنا يختلف تماماً حيث إن الغضب والاستنكار والتكذيب والتجاهل والازدراء وزيادة جرعة التضليل الإعلامي هي التي تقابل مثل هذه الحالة، لذلك لا نستغرب من حدوث بعض الأزمات المفاجئة والحادة في مؤسساتنا، وهذا الأمر هو من الأسباب الكامنة وراء تراكم العديد من المشكلات في مؤسساتنا وبخاصة مؤسسة التعليم، لأننا في حقيقة الأمر نستهين بمثل هذه النتائج ونهمل النظر فيها. القراءة المتعمقة فيما يقوله الآخرون قد تكون السبب في (الأنا المتضخمة) عند البعض أو لارتباط إصلاح التعليم برموز وأشخاص معينة· وبسبب ضحالة الرؤية المنهجية عند البعض الآخر، وهذا ما حدث في موضوع أزمة بداية العام الدراسي، حيث تم تجاهل النصائح والتحذيرات التي قيلت قبل سنة من حدوث الأزمة ولم تكن الاستجابة جادة لمعالجة الخلل، حتى أن معالي وزير التربية د· علي عبدالعزيز الشرهان قال في صحيفة (الاتحاد) الصادرة في 30/8/2003 إن (هذا العام كان نموذجاً للأداء وإن الوزارة استفادت كثيراً من تجاربها السابقة)··· بمعنى أنه ليست هناك مشكلة وكل ما قيل مجرد (زوبعة في فنجان)· وبعد أسبوع واحد من هذا اللقاء واجهت وزارة التربية أزمة حادة تحدثت عنها كل الصحف المحلية· الأمر تكرر أيضاً في موضوع الاستطلاع الذي أجرته مجلة (المعلم) في عدد ديسمبر 2003 على عينة ضمت 100 من التربويين العاملين في الميدان والذي أشار إلى نتيجة تقول إن 75% من التربويين قالوا: إن رؤية 2020 لم تقدم شيئاً للتعليم· لم تتحرك الوزارة أو تحرك أدواتها البحثية للتأكد من مصداقية هذا الاستطلاع والقيام بعمل دراسة مضادة، بل قابلت الأمر بنوع من التجاهل والازدراء على رغم أهمية النتيجة وخطورتها على موضوع إصلاح التعليم· المصير نفسه كان من نصيب الدراسة التي قدمها مدير إدارة كليات التقنية د· سليمان الجاسم كورقة عمل عن مخرجات التعليم إلى الاجتماع الثالث عشر للمسؤولين في الأجهزة المركزية للخدمة المدنية في دول مجلس التعاون ووصلت إلى (ملياري درهم) بسبب عدم قدرة القيادة التعليمية على وضع الحلول المناسبة لمشكلة الرسوب والتسرب، حيث إن هناك 167.327 طالبة وطالبا رسبوا وتسربوا خلال خمس سنوات من عام 97 إلى 2001· ركزوا معي على الخسارة حيث إنها حدثت في ظل استراتيجية رؤية 2020 وفي ظل القيادة الحالية· الدراسة أيضاً أثبتت أن مخرجات التعليم العام لا زالت تعاني من ضعف وأن هذا الأمر يكلف كليات التقنية 20% من ميزانيتها للتأهيل· وهذا أيضاً ما أشارت إليه دراسة أخرى تقول إن 95% من خريجي الثانوية العامة لا زالوا حتى الآن يحتاجون قبل دخولهم الجامعة إلى دراسة تحضيرية في اللغات والرياضيات والحاسب الآلي·
كان من المفترض أمام هذه الحقائق أن تحدث هزة عنيفة في الوزارة وتجند كل الطاقات لتقصي الأمر وإجراء البحوث وتطمين الرأي العام بنتائج مضادة. هذا المشروع بكل الأموال التي صرفت عليه منذ خمس سنوات يحتاج إلى نقد موضوعي مسؤول يحدد معالمه بأمانة