في عام 1956 كسب المجريون تعاطف العالم مع تمردهم البطولي على النظام القاسي الذي فرضه السوفييت على بلادهم. بعد ذلك التاريخ بخمسين عاماً يتوثب المجريون لنوع مختلف من الثورات. الهدف هذه المرة ليس نظاماً ديكتاتورياً مفروضاً عليهم من الخارج، ولكن ديمقراطية هشة دستورية الأمر الذي يجعل من إعجاب العالم بهم مجرد ذكرى بعيدة. والمشهد السياسي المجري تتجاذبه في الوقت الراهن قوتان هما: الحكومة الائتلافية الليبرالية- الاشتراكية ذات الطراز الغربي، والتي تؤمن بحرية السوق ويرأسها رئيس الوزراء "فيرينك جيوركساني" من جانب. وفي الجانب الآخر هناك خليط متنافر من المتعصِّبين الساخطين المناوئين للأجانب المنضوين تحت حزب "فيديس" الذي يرأسه "فيكتور أوربان" الذي خسر 4 انتخابات على مدار الستة عشر عاماً الماضية والذي يحاول بشتى الطرق الوصول للسلطة. ويوم الاثنين الماضي، وفي أعقاب انتخابات بلدية، حقق فيها حزب " فيديس" بعض المكاسب المهمة أصدر "أوربان" إنذاراً مذهلاً، مفاده أنه إذا ما لم يقم رئيس الوزراء بالاستقالة والتخلي عن حزمة الاصلاحات الاقتصادية التقشفية التي تقدم بها، فإنه -أي "أوربان"- سيدعو أنصاره للنزول إلى الشوارع يومياً. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن المتظاهرين في المجر في الآونة الأخيرة قد هاجموا الشرطة وأضرموا النيران في مبنى التلفزيون المجري فإن ما يقوله "أوربان" يرقى لمرتبة التهديد بإطاحة الحكومة بالقوة. وفي خلال الأيام القليلة القادمة، سنعرف ما إذا كانت المجر ستعبر منعطفاً آخر مهماً على طريق الديمقراطية أم أنها ستعود القهقرى إلى الماضي. ويقول الصحفي "جوزيف ديبريسناي" الذي كتب السيرة الذاتية لكل من "جيوركساني" و"أوربان" في مقال له نشر بإحدى الصحف المجرية مؤخراً إنه إذا ما كسبت حركة "أوربان" الشعبوية قتال الشوارع فإن "ديمقراطية المجر البرلمانية التي تم الحصول عليها بشق الأنفس ستتعرض لضربة قاصمة" وأضاف: "سيتم استبدال هذه الديمقراطية بنظام فاسد مخادع أبوي على الطراز البلقاني... وستكون المجر تحت أوربان أقرب إلى نظام الرئيس إليكسندر لوكاشنكو في روسيا البيضاء منها إلى الديمقراطيات البرلمانية في أوروبا". هذه كلمات قاسية بحق زعيم سياسي أوروبي هو في النهاية أحد نواب رئيس أكبر كتلة سياسية في البرلمان الأوروبي وهي حزب "الشعب الأوروبي" المنتمي لتيار "يمين الوسط". وقد يقول البعض إن كلمات "ديبريسناي" تعتبر من قبيل الدعاية الهادفة لإثارة الفزع، وقد يقول آخرون إن "أوربان" يقود المؤسسة الديمقراطية المجرية رغم أنفها إلى طريق مجهول بنفس الطريقة التي قاد بها "سلوبودان ميلوسوفيتش" بلاده إلى ذات المصير، لكن الشاهد أن هناك طائفة من الأدلة التي تؤيد وجهة النظر المتشائمة التي يبديها هذا الصحفي. فالسبب المباشر للاضطرابات الأخيرة، هو تسرب وثيقة تحتوي على نص ما قيل في اجتماع كان رئيس الوزراء المجري قد عقده مع أعضاء كتلته البرلمانية وانتقد فيه حزبه لقيامه بالكذب على الشعب بشأن حالة الاقتصاد في البلاد، وأكد خلاله على ضرورة الحاجة إلى إجراء إصلاحات اقتصادية عاجلة وهو ما استغلته المعارضة للطعن في مصداقية الحكومة عشية الانتخابات البلدية الأخيرة. وخلال أيام من تسرب وقائع ذلك الاجتماع اندفع المشاغبون إلى الشوارع يحطِّمون ويخرِّبون وينادون باستقالة الحكومة. المصدر الأعمق للسخط الشعبي في المجر هو أنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي السابق، وسقوط الشيوعية في وسط أوروبا، ازداد حجم التوقعات والأحلام، بيد أن تلك الأحلام سرعان ما تحولت إلى كوابيس بالنسبة لهؤلاء الذين لم تتحسن أحوالهم في النظام الجديد. ومن هنا يمكن فهم سر جاذبية الحركات الشعبوية ليس فقط في المجر، ولكن في كل دول وسط أوروبا، حيث يقوم زعماء تلك الحركات الآن باستثمار سخط مواطنيهم وحسرتهم على آمالهم التي لم تتحقق. أخشى القول إن فرصة ديمقراطية المجر الدستورية في البقاء لا تزيد على خمسين في المئة، وخصوصاً إذا ما استمرت المؤسسة السياسية المحافظة في البرلمان الأوروبي في تقديم دعمها للديمقراطيين المارقين في المجر، مثلما حدث عندما قام "ويلفريد مارتينز"، زعيم حزب "الشعب الأوروبي" هذا الأسبوع بتقديم دعمه لاستراتيجية "أوربان" السياسية، وهو ما كان بمثابة تشجيع كبير لأنصاره الطائشين في شوارع المجر كما مثل خطأ جسيماً. بروكسل لا يجب أبداً أن تشجع أو تتسامح مع التخلي عن القواعد البرلمانية أو الإطاحة عن طريق العنف بحكومة ديمقراطية منتخبة، وفقاً للدستور في واحدة من الدول الأعضاء في الاتحاد. ذلك أنه إذا ما سمحنا لشبح الماضي المضاد للديمقراطية في المجر بأن يطل من جديد، فإن ديمقراطية أوروبا بأسرها -وليس المجر فقط- ستكون مُعرضة للخطر. أندرياس بي. جولنر ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ أستاذ الاتصالات والدراسات الإعلامية بكلية الأعمال– بودابست ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"