اسمه الأصلي جوزيف ألْوَا راتزنجير Joseph Alois Ratzinger، مولود بتاريخ 17 أبريل 1927: في ماركتل، بافاريا، ألمانيا. من علماء اللاهوت الكاثوليك. تولى كرسي البابوية عقب وفاة البابا جان بول الثاني في 19 أبريل 2005، ولقب بلقب بابوي ينطق بالإيطالية Benedetto وبالإنجليزية بنيدكت benedict وبالفرنسية بينويت benoit، وهو من اللاتينية بينديكتوس Benedictus بمعنى: "المبارك"، ("باركه الله"). 1- نظرة إجمالية على الخطاب: ألقى البابا بينيديكتوس السادس عشر يوم 12-09-2006 خطاباً أثار زوبعة من الاحتجاج في العالم العربي والإسلامي بسبب عبارات تنمُّ عن سوء فهمه لقضايا من صميم العقيدة الإسلامية. والآن وقد هدأت الزوبعة، أو هي في سبيلها إلى أن تهدأ، وصدرت ترجمات كاملة لهذا الخطاب، بالإنجليزية ثم بالفرنسية، بعد أن ظل المنشور المذاع منه باللغة العربية مجرد فقرات أو ترجمات ناقصة وسريعة، ارتأينا أن نخص قراءنا بدراسة هادئة لهذا الخطاب الذي يرقى بشكله ومضمونه إلى مستوى النصوص المبنية الهادفة، الحاملة لرؤية، الداعية إلى برنامج. لم يكن الخطاب مجرد عظة بل كان رسالة إلى الجامعات في العالم المسيحي وأهلها أولاً، وإلى جميع الذين يفكرون في الشأن الديني من منظور فلسفي/ سياسي. ذلك ما يشي به عنوان الخطاب الذي جعله البابا من ثلاث كلمات: "الإيمان والعقل والجامعة"، مع عنوان فرعي: "ذكريات وتأملات". كما يشتمل الخطاب على رسالة، على طريقة "إياك أعني واسمعي يا جارة"، موجهة إلى المسلمين، وإلى المعنيين منهم بحوار الأديان بصفة خاصة. "الإيمان والعقل والجامعة"، ثلاث كلمات تحدد موضوع الخطاب وترسم آفاقه منذ البدء. وتأتي آخر جملة فيه لتعود بالقارئ إلى عنوانه، وأيضاً لتنسيه –مؤقتاً- أشياء كثيرة تضمنها الخطاب. لقد أسهب البابا في بيان ما أسماه تلاحم العقل والإيمان في العقيدة المسيحية ثم ختم بالإفصاح عن الجهتين اللتين يوجه خطابه إليهما؛ فقال أولاً: "ذلك هو البرنامج الذي يجب أن يعتمده اللاهوت المبني على العقيدة الإنجيلية في حوارات عصرنا"، مضيفاً: "وبهذه الرحابة التي للعقل ندعو شركاءنا في حوار الثقافات"، والمقصود: المسلمين الذين قال عن دينهم في مستهل الخطاب إنه لا يعتمد العقل؛ وقال ثانياً وأخيراً: "والسعي المتواصل للكشف عنها (=رحابة العقل) هو المهمة الكبرى للجامعة"، مشيراً بذلك إلى ضرورة تدريس اللاهوت المسيحي في الجامعات. وإذن، يخاطب البابا هنا طرفين: "شركاء في حوار الثقافات" والمقصود في الأساس المسلمون من جهة، ومن جهة أخرى عمداء الجامعات وأساتذتها الذين ألقى فيهم خطابه -على شكل محاضرة- وكان يتحدث إليهم في جامعة Regensburg بألمانيا، مطالباً بالعودة إلى تدريس اللاهوت المسيحي في الجامعات بوصفه أحد العلوم الإنسانية. وبين عنوان الخطاب وآخر كلماته تتسلسل قضايا دينية وفلسفية و"سياسية" مهمة تعرضت، بنوع من الفضول، وبكثير من الاختزال، وفي إطار مسار تأويلي مرسوم بعناية، لمسائل تنتمي إلى الماضي والحاضر، إلى الدين والفلسفة والعلم: فقرات تنمُّ عن عدم فهم (فكري وفلسفي) لأمور لها علاقة بعقيدة الإسلام (الجهاد، مسألة الجبر والاختيار)، وأخرى تقدم تأويلاً لمرحلة من مراحل تكوُّن التوراة قد لا يرتاح اليهود لما أدلى به في شأنها، وفقرات تخص العلاقة بين المسيحية والفلسفة الأفلاطونية المحدثة تريد أن تعيد كتابة تاريخ العقيدة الكاثوليكية، في الوقت الذي تنال فيه بهدوء وبـ"كلام صامت" من الكنائس الشرقية. هذا مع القفز على المرحلة "المدرسية"، اللاهوتية/ الفلسفية، في القرون الوسطى بأوروبا، والاقتصار على بضع كلمات في موضوع الإصلاح الديني الذي انبثقت عنه البروتستانتية. أضف إلى ذلك الخوض في قضايا هي من صميم فلسفة العلوم، والشكوى من كون الفلسفة الوضعية قد ضيقت من مجال العقل عندما استبعدت من ميدانه البحث في "طبيعة الله" فأقصت الميتافيزيقا، وبالأحرى اللاهوت، من مشروعها المنطقي الفلسفي. وأخيراً، وليس آخراً، يدخل البابا في جدال مع مواطنه ومعاصره العالم المؤرخ والفيلسوف الألماني هارناك الذي دعا إلى تجريد العقيدة المسيحية من القول بألوهية المسيح والقول بأن الله ثالث ثلاثة، والرجوع بالتالي إلى المسيحية الأولى كما مارسها المسيح عليه السلام، بوصفها أخلاقاً، بدون شعائر وطقوس وعبادات... قبل أن نشرع في مناقشة هذا الخطاب قمنا بترجمته إلى العربية كاملاً عن الترجمتين الإنجليزية (التي نشرها الفاتيكان في موقعه الإلكتروني) والفرنسية (التي نشرتها جريدة لاكروا المسيحية). ومن أجل أن نسهِّل على القراء متابعة تحليلنا لهذا الخطاب -الذي ننشر ها هنا نصه الكامل موزعاً على فقرات يتخللها "تفكيك الأصول وتصحيح الفصول": الأصول التي تؤسس بنية الخطاب، والفصول التي تحمل الرأي ووجهة النظر- نقدم فيما يلي محتوى فقراته من خلال العناوين التالية التي هي من وضعنا: 1) ذكريات البابا عن حياته الجامعية. 2) رأي الإمبراطور البيزنطي في موضوع الجهاد ومسألة "الجبر والاختيار" في الإسلام، 3) العقل الإغريقي واللاهوت المسيحي. 4) تأثير العقل اليوناني في التوراة من خلال الترجمة والاحتكاك. 5) القطيعة بين الروح الإغريقية والروح المسيحية في القرون الوسطى. 6) نقد النزعة المطالبة بتجريد اللاهوت المسيحي من الطابع اليوناني. 7) شروط الحوار بين الديانات. تلك هي القضايا التي تناولها البابا في خطابه المثير. وسنقوم بتحليلها والتعليق عليها على الترتيب معتمدين نص الخطاب. كما سنتوقف خلال العرض مع القضايا التي تحتاج إلى توضيح أو تصحيح منبهين كلما كان ذلك ضرورياً إلى ما سكت عنه الخطاب أو أهمله أو ضخَّمه.. الخ. ولنبدأ من البداية: استهل البابا محاضرته بالقول: أصحاب المعالي، أصحاب السعادة، أصحاب السمو، سيداتي سادتي: "إنها بالنسبة لي لتجربة مؤثرة أن أعود إلى هذه الجامعة مرة أخرى وأن أقوم من جديد بإلقاء محاضرة من هذه المنصة. إنني أجدني الآن أستعيد في ذاكرتي تلك السنوات التي التحقت فيها بجامعة بون كأستاذ، بعد أن قضيت فترة من الزمن مُفعمة بالهناء والسعادة في المعهد العالي لمدينة فريزينغ Freising. كان ذلك عام 1959، على عهد الجامعة القديمة، التي كان التدريس فيها يعتمد على الأساتذة كأفراد عاديين حيث لم يكن هناك لأصحاب الكراسي، لا مساعدون ولا مكلفون بالسكرتارية. ولكن كان هناك بالمقابل اتصال مباشر وواسع بين الأساتذة والطلبة وبكيفية خاصة بين الأساتذة بعضهم مع بعض. لقد كان الأساتذة يلتقون قبل الدروس وبعدها في القاعة المخصصة لهم، حيث كانت تجري مناقشات مفيدة مليئة بالحيوية، بين المؤرخين والفلاسفة واللغويين، كما بين أساتذة كليتي اللاهوت اللتين كانتا من ضمن كليات الجامعة. وكان هناك، في كل منتصف سنة دراسية، ما كان يسمى بـ"اليوم الأكاديمي" «dies academicus» حيث يتحدث جميع أساتذة الكليات أمام جميع طلابها محققين بذلك تجربة "جامعة" «universitas»، وهي ما أطلقتم عليه من قبل، أصحاب السعادة العمداء: "التجربة". وبعبارة أخرى إنه رغم اختصاصاتنا التي تجعل من الصعب في بعض الأحيان اتصال بعضنا ببعض وتبادل الأفكار فيما بيننا فإننا كنا نشكل كلاً واحداً في هذه المناسبة، نتناول كل موضوع اعتماداً على العقل بكامل أبعاده، واعين أننا نتقاسم مسؤولية الاستعمال السليم للعقل. لقد كانت فعلاً تجربة حية، عشناها في جو حميمي. كانت الجامعة فخورة بكليتيها المتخصصتين في اللاهوت. لقد كان واضحاً أن هاتين الكليتين، اللتين تعملان على إضفاء الطابع العقلي على العقيدة، كانتا تساهمان بعمل كان يشكل بطبيعة الحال جزءاً من كل، أعني جزءاً من "كلية المعرفة" universitas scientiarum، وذلك على الرغم من أن الجميع لم يكن على درجة واحدة من الإيمان بالعقيدة التي كان اللاهوتيون يحاولون إضفاء الطابع العقلي عليها. ولم يكن هذا المعنى العميق للانسجام على مستوى عالم العقل موضوع تشويش قط، حتى عندما ترامى إلى سمعنا أن أحد زملائنا قال يوماً: إن جامعتنا تنطوي على شيء غريب، وهو تخصيص كليتين لشيء لا وجود له، يعني: اللاهوت. ذلك أنه حتى إزاء شك مُطلق مثل هذا فإنه من الضروري ومن المعقول القيام بالبحث العقلي في مفهوم الله، وفي إطار العقيدة المسيحية. وهذا كان مقبولاً في الجامعة كلها بدون مناقشة"، (ننبه إلى أن مفهوم الله في المسيحية ملفوف بـ"الأسرار"، من حيث إنه ثالث ثلاثة: الأب والابن وروح القدس، واللاهوت المسيحي مشغول أساساً بإضفاء المعقولية على هذا التركيب في الألوهية: اتحاد اللاهوت بالناسوت. وسنزيد هذه المسألة توضيحاً لاحقاً). لعل القارئ يلاحظ معنا أن هذا المدخل جيد للغاية من حيث إنه يقود القارئ منذ البداية وبصورة مباشرة إلى موضوع المحاضرة (الإيمان، والعقل، والجامعة)، وبالتالي فلقد كان من المنتظر أن ينتقل البابا مباشرة ودونما أية واسطة إلى النقطة الثالثة أعلاه (العقل الإغريقي واللاهوت المسيحي). لكن الحبر الأعظم خرج عن "الخط المستقيم" (على صعيد بنية الخطاب) لينحرف "شرقاً"، ويحكي قصة حوار منسوب إلى إمبراطور بيزنطي وعالم مسلم من فارس.