مثلما يصاب الداخل النفسي بالتشوش أو المرض العضال عند الأفراد، فكذلك تصاب الأمم. ومثلما ينتهي أولئك الأفراد إلى عدم القدرة على التجاوب والتفاعل الصحّي المتوازن المعقول مع محيطهم الشخصي والاجتماعي، فكذلك تفعل الأمم، إذ أنها تنتهي بالوقوف عاجزة أو متردّدة أمام المشاكل الكبرى التي تواجهها. أمتنا العربية في الوقت الحاضر تكتوي بلهيب مثل ذلك الجحيم النفسي الداخلي، حيث عِلِل وعُقَدُ اللاوعي الجمعي عند شعوبها، تسيطر على كل تصرّفاتها ومواقفها. إنها علل وعُقد تكونت عبر تاريخ طويل منذ أن دخلت هذه الأمة في فترات الهزائم أمام أعدائها وفي مراحل ضعف كيانها السياسي والاقتصادي، بسبب انقساماتها، لتنتهي باحتلالها من قبل كل أنواع الغرباء وباصطدامها بحضارات وثقافات أفضل مما لديها. فكانت النتيجة أن كل هزيمة وكل انكسار وكل شعور بالهوان وقلة الحيلة تتراكم في مستوى اللاوعي عند الأمة لتكوِّن شيئاً فشيئاً مستنقعاً آسِناً من العواطف البدائية والمشاعر غير الناضجة، تضعف الأمة وتشل إرادتها. وفي هذا لا تختلف الأمة عن الأفراد الذين تتجمع فواجعهم ومآسي حياتهم منذ الأيام الأولى لطفولتهم، لتستقر تدريجياً في اللاوعي وتقود مع الوقت إلى أشكال مختلفة من الأمراض النفسية التي تحتاج للعلاج النفسي. إذن فالأمة التي تصاب بالأمراض النفسية، وهي عبارة عن خلل مترابط في الجوانب العاطفية والسلوكية والروحية، تحتاج هي الأخرى للعلاج النفسي. بالنسبة للمفكر والطبيب النفسي السويسري المشهور "كارل جنك" يحتاج المريض النفسي للمرور في أربع مراحل علاجية إذا أريد له الشفاء التام من عقده النفسية. والمراحل الأربع هي: اعتراف الفرد بكل ما يخفيه في داخله، ثم استماعه لشرح المحلِّل النفسي لمعاني تلك الاعترافات، ثم قبوله لنظام تربوي تعليمي لمواجهة كل ما كان يخفيه، وأخيراً تحوله وتغيره الجذري العميق. بالنسبة للفرد يقوم عادة المحلل أو الطبيب النفسي بكل ما تتطلبه المراحل الأربع. لكن ماذا عن علاج الأمة التي تعاني من أزمة نفسية، كما هو الحال مع الأمة العربية؟ كيف السبيل لإخراجها من الفوضى النفسية الداخلية التي تتمثل في عدم ثقتها بنفسها، في هلعها من مخاوف متخيّلة وهمية، في شعورها بالنّقص أمام الآخر، وفي تذبذبها المستمر بين فترات غضب وانفجار طفولي غير مفيد وفترات هبوط نفسي وكآبة لا تجدي ولا تنفع؟ ثم ما هي الجهة أو الجهات التي ستقوم بذلك العلاج؟ وهل إن كل مرحلة من مراحل العلاج ستحتاج إلى جهة مختلفة لتقوم بمتطلبات ذلك العلاج؟ أي مرحلة تخص المفكرين وأي مرحلة تخُص مؤسسات المجتمعين المدني والسياسي؟ ليست هذه أسئلة عبثية، فهي من صميم المشروع النهضوي العربي منذ ما يربو على قرن. وقضية اللاوعي الجمعي لشعوب الأمة العربية، لا تقل أهمية عن ممارسات الوعي البليد غير العقلاني لهذه الأمة، في حقول السياسة والاقتصاد والأمن والثقافة والعصرنة وغيرها. وكما هو عند الفرد، فإن هيمنة مخزون اللاوعي عند الأمة، من مشاعر ومخاوف وأساطير وأحلام غير صحية وغير عقلانية، على كل تفكيرها وتصرفاتها، يقود إلى الشّلل أمام معضلات الحياة، وهو ما نراه جلياً اليوم في كل مناحي حياتنا العربية. لاشك أن الأرض العربية تموج حالياً بالتحليل والنقد لتصرفات الأمة التي تمارسها بوعي يتصف بالفوضى والعفوية السطحية وعدم التركيز على الأولويات والسقوط في الأجندات التي يضعها لها أعداؤها. لكن كم من هذا التصرف الواعي الخاطئ هو نتيجة للاوعي المريض في هذه الأمة؟ هنا تكمن أهمية موضوع العلاج، بمراحله، بمن سيقوم به، بأساليبه وأدواته، بالنتائج المتوخّاة منه، بنوع الأمة المعافاة الخالية من قيح وعفن وأسن الوضع الداخلي النفسي الذي عاشته عبر قرون وتعيشه اليوم بشكل مأساوي مرعب. كثير من الأفراد والشعوب خرجوا من مستنقع اللاوعي المريض، وبالتالي فليس مستحيلاً على هذه الأمة أن تفعل ما فعله الآخرون!