هل من المشروع الحديثُ عن أهمية صياغة رؤية عربية لثقافة السلام، أم أن هذا المصطلح كما ظهر في الدوائر الفكرية الغربية عقب الحرب العالمية الثانية في صيغته الأولى والتي هي "بحوث السلام"، وكما تبنته من بعد الأمم المتحدة مفهوم دولي متفق عليه، وينبغي الالتزام به في كل الدول والمجتمعات الإنسانية مهما تباينت ثقافاتها؟ لو استعرضنا التراث العلمي في الموضوع بدقة، لاكتشفنا حقيقة أساسية مبناها أن مفهوم ثقافة السلام تتعدد معانيه بتعدد المدارس العلمية، وأبعد من هذا بتعدد الثقافات الإنسانية، وخصوصاً ثقافات الشرق وثقافات الغرب. ومن هنا فدعوتنا لصياغة رؤية عربية لثقافة السلام في إطار جهود "جمعية سوزان مبارك الدولية من أجل السلام"، وفي "معهد دراسات السلام" الذي أنشأته في مكتبة الإسكندرية، لا تعد خارجة عن السياق العالمي، الذي يسوده التعدد والتنوع الخلاق في صياغة تعريفات ثقافة السلام. غير أننا توصلنا -من خلال دراستنا الدقيقة للتراث العلمي- إلى أنه مع الاعتراف بالتعدد في تعريفات ثقافة السلام، إلا أنه حدث إجماع على ست مراحل مرت فيها الصياغات المتعددة لمفهوم السلام وخاصة في بحوث السلام الغربية، وانتهت عملية دراسة هذا التطور التاريخي إلى إجماع آخر على خمسة نماذج أساسية للسلام ينبغي اعتمادها في كل مكان، مع عدم استبعاد أنه في التطبيق ينبغي إعطاء التأثيرات المحلية والإقليمية حقها الكامل في إدخال عناصرها بشكل فعال في صميم كل نموذج من نماذج السلام الخمسة. ويبرز في إطار المفكرين الثقات الذين أولوا موضوع اختلاف مفاهيم السلام بحسب الثقافات المختلفة في الشرق والغرب العالم الاجتماعي الياباني "تاكيشي إيشيدا" الذي نشر دراسة رائدة عام 1969 عنوانها: "ما بعد المفاهيم التقليدية للسلام في مختلف الثقافات" نشرها في "مجلة بحوث السلام" وأصبحت هي المرجع الأساسي في الموضوع منذ ذلك الوقت. وفي مجال تعقب المراحل المختلفة التي مرت بها الصياغات المتعددة لمفهوم السلام، لدينا دراسات موثقة لعدد من الباحثين المرموقين، بالإضافة إلى دراسات أخرى حددت نماذج السلام الخمسة التي حدث إجماع دولي بشأنها، وانعكس على مقررات التدريس الجامعية في مجال بحوث السلام. وأتصور -كتفكير مبدئي- أن الرؤية العربية المقترحة يمكن أن تصاغ على أساس خمسة مفاهيم أساسية لكل منها تعريفات محددة وقد تكون مختلفة، مما من شأنه أن يثير إشكاليات منهجية ونظرية تقتضي الإيضاح. وهذه المفاهيم الخمسة هي الهوية والقومية والذاكرة التاريخية ومفهوم الذات وأخيراً رؤية العالم. وقد سبق لنا في دراساتنا السابقة المنشورة في كتابنا "إعادة اختراع السياسة من الحداثة إلى العولمة" (القاهرة: دار نشر ميريت، وطبعة خاصة في مكتبة الأسرة عام 2006) أن اهتممنا اهتماماً خاصاً بإشكالية "الهوية" في عصر العولمة، وذلك في إطار فرض أساسي صغناه ومبناه أن السر العميق في الارتباك الشديد الذي يسود دوائر السلطة والحكم في الدولة العربية المعاصرة، يعود إلى أنه يطرح عليها في الوقت الحاضر ثلاثة أسئلة حاسمة، تمثل لها تحديات خطيرة وهي أسئلة التقدم، والحكم الرشيد، والهوية. وفيما يتعلق بالهوية يمكن القول إنها تثير إشكاليات لا تنفرد الدولة العربية المعاصرة بمواجهتها بل يمكن القول إنها مشكلة ثقافية وسياسية عالمية، يدور حولها الجدل وتحتدم المعارك السياسية والفكرية بصددها في كل بلاد العالم، ولا فرق في ذلك بين دول متقدمة ودول نامية أو متخلِّفة. ومن هنا قد يكون من المناسب إثارة السؤال المهم: لماذا الآن ونحن في بداية القرن الحادي والعشرين يثور موضوع الهوية في كل مكان؟ هناك أسباب متعددة أدت إلى أن تصبح مشكلات الهوية على أجندة هموم الدول المعاصرة في كل مكان. وربما كانت ظاهرة العولمة التي أصبحت هي العملية التاريخية التي تملأ الدنيا وتشغل الناس على رأس هذه الأسباب. فقد أدت إلى تحركات سكانية متعددة، تمثلت في الهجرة إلى البلاد الأوروبية من قبل أفراد وافدين من الدول العربية والإسلامية، وهؤلاء عبر الزمن كوَّنوا مجموعات سكانية كبيرة لها أسلوب مختلف في الحياة، ودين مختلف وقيم مختلفة. وهكذا خلقت إشكالية الهوية لهؤلاء البشر مشكلات متعددة لكل من الدول المضيفة والمهاجرين. غير أنه بالإضافة إلى تأثير العولمة على الهوية، هناك تطورات داخلية في كل من المجتمع العربي والمجتمعات الإسلامية أدت إلى ظهور أزمة في الهوية. فهناك من يتمسكون في العالم العربي بهويتهم العربية والتي تنعكس على مفهوم السلام محلياً وإقليمياً وعربياً، وهناك من يتمسكون بهوية إسلامية متخيلة ترى أن المسلمين جميعاً ينتمون إلى أمة واحدة تدين بالإسلام، ويفرض ذلك بالتالي انعكاسات مهمة على مفهومهم للسلام، حيث تبرز مفاهيم الجهاد، والحرب الدينية بين المسلمين والكفار، مما ينعكس بالسلب في كثير من الأحيان على مفهوم وممارسات السلام سواء محلياً أو إقليمياً أو عالمياً. والمفهوم الثاني الذي يصلح كأساس لرؤية عربية لثقافة السلام هو مفهوم "القومية"، وهو موضوع مُعقد للغاية. فالقومية تحتوي على أفكار مختلطة حول العنصر والأمة والطبقة. ونحن نشهد عبر عالمنا المعاصر إحياءً للقومية. ويرى العالم السياسي "فرد هاليداي" أن القومية هي القوة المحركة والدافعة للحركات الجديدة في أوروبا الشرقية وهي المسؤولة عن توحيد ألمانيا وانهيار الاتحاد السوفييتي. وقد تكون في إحياء القومية جوانب إيجابية إلا أنها قد تؤدي إلى صراعات خطيرة داخل الدولة ذاتها أو بين الدول. إن العنصرية الجديدة -كما يذهب بعض الباحثين الثقات- ترتبط ارتباطاً عضوياً بالتعبيرات المُفرطة عن القومية. أما عن المفهوم الثالث الذي يصلح أساساً من أسس صياغة رؤية عربية للسلام فهو "الذاكرة التاريخية". والذاكرة التاريخية عموماً في نشأتها التاريخية بالنسبة لشعب ما وفي بنيتها وفي الوظائف التي تقوم بها تلعب دوراً حاسماً في صياغات اتجاهات كل من النخبة والجماهير إزاء الغير. ويمكن القول إن الذاكرة التاريخية العربية مازالت حية فيما يتعلق بالاستعمار الذي مارسته الدول الغربية ضد بعض البلاد العربية، وكذلك الاحتلال الأجنبي. وبعد زوال حقبة الاستعمار بدأت هيمنة الدول الكبرى على مقدرات الدول العربية، وظهر تحيز بعضها للدولة الإسرائيلية في قهرها للشعب الفلسطيني، مما يعكس آثاراً سلبية بالغة الخطورة على مفاهيم الشعوب العربية للسلام في المنطقة وفي العالم. ونصل إلى المفهوم الرابع وهو مفهوم الذات، self – concept وهو من المفاهيم الأساسية في علم النفس، وتبدو أهميته حين ينتقل من مجال علم النفس الفردي إلى علم نفس العلاقات الدولية، لتفسير الاتجاهات الأساسية لشعب ما سواء في نظرته لذاته أو في إدراكه للآخر. وأخيراً لدينا مفهوم رؤية العالم vision du monde ويعني النظرة للكون والمجتمع والإنسان. هذا موجز مختصر للمفاهيم الأساسية التي يمكن على أساسها صياغة رؤية عربية لثقافة السلام. ومن الأهمية بمكان أن نؤكد أن صياغة رؤية عربية للسلام لا تتناقض بالضرورة مع الرؤى والنماذج السائدة في الفكر العالمي حول السلام. وفي هذا المجال لدينا دراسات موثقة تعكس الإجماع العالمي حول موضوعين. الأول منهما هو المراحل المختلفة التي مرت بها محاولات صياغة مفهوم السلام، والثاني الإجماع العالمي حول نماذج السلام الرئيسية. فيما يتعلق بالمراحل المختلفة التي مرت بها عملية صياغة مفهوم السلام يرى بعض الباحثين الثقات أنها تنقسم إلى ست مراحل. أولاً السلام باعتباره غياباً للحرب كممارسة وسلوك، وهو يطبق على الصراع العنيف سواء بين الدول أو داخل الدول ذاتها في صورة الحروب الأهلية. وهذه الفكرة عن السلام ذائعة لدى الجماهير العادية ولدى السياسيين في نفس الوقت. والمرحلة الثانية ركزت على السلام باعتباره توازناً للقوى في إطار النظام الدولي. والمرحلة الثالثة هي التأكيد على السلام السلبي (أي منع نشوب الحرب) والسلام الإيجابي (منع العنف البنيوي في المجتمع). والمرحلة الرابعة هي تلك التي ساد فيها مفهوم نسوي للسلام Feminist peace حاول أن يربط بين المستوى الكلي للسلام والمستوى الجزئي، ولذلك هو لا يفرق بين الحرب وبين العدوان على الأفراد، مثل ممارسة العنف غير المنظم على النساء في الحروب كالاغتصاب، وكل صور العنف ضد الأشخاص. ولو انتقلنا إلى المرحلة الخامسة لوجدنا تركيزاً على فكرة السلام مع البيئة، باعتبار أن الممارسات الرأسمالية قد اعتدت بوحشية على البيئة الإنسانية. ونصل أخيراً إلى مرحلة التركيز على السلام الداخلي للإنسان باعتباره يرتبط بالضرورة بالسلام على المستوى الكلي. ومعنى ذلك أن مراحل تطور صياغة مفاهيم السلام -لو أردنا اختزالها في عبارة واحدة- لقلنا إنها تتمثل في الانتقال من المفاهيم ذات البعد الواحد إلى المفاهيم متعددة الأبعاد، ومن المفاهيم السلبية إلى المفاهيم الإيجابية، ومن السلام الخارجي إلى كل من السلام الداخلي والخارجي معاً. هذه ملاحظات مبدئية تحتاج إلى تفصيلات متعددة.