دخلت الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً في فترة من فترات مراجعة النفس والانشغال بالعثور على إجابة للسؤال: ما هو الخطأ الذي ارتكب في العراق، وأدى إلى ما أدى إليه هناك؟ وهذا السؤال يكتسب أهمية خاصة، لأن حرب العراق هي أول حرب عسكرية واستراتيجية، بالمعنى الحقيقي للكلمة الأخيرة، تخوضها أميركا بعد سقوط الشيوعية، ولن تكون الأخيرة بالطبع. ونظراً لأنها القوة العظمى الوحيدة في عالم اليوم، فإن الولايات المتحدة ستجد أنه من المحتم عليها خوض صراعات ومعارك جديدة، وأنه من المناسب لها أن تعمل على دراسة ما حدث، والاستفادة منه حتى تعرف كيف تخوض الحرب القادمة، وكيف تكسبها. وهناك أسئلة مستقبلية ينبغي على أميركا أن تجد حلاً لها بسبب أهميتها، ومنها السؤال: كيف يمكن كسر الديكتاتوريات دون أن يتم تحطيم المجتمعات التي تحكمها؟ هناك بالطبع أسئلة أخرى غير هذا السؤال، وذلك من قبيل: هل تغيير الأنظمة هو مهمة أميركية في الأساس؟ هناك شيء واضح فيما يتعلق بمسألة تحرير الشعوب من الأنظمة القمعية التي تحكمها، وهو أن الشعوب بأكملها قد لا تكون مستعدة للتحول إلى الديمقراطية، وأنه ليس من الضروري أن تهرع كل المجتمعات "المقموعة" إلى الحرية بمجرد تحطيم "حائط برلين" الخاص بها. كان هذا ينطبق على دول أوروبا الشرقية الشيوعية سابقاً، ولكنه لا ينطبق بالقطع على العراق. ومن بين الفرضيات المعقولة التي يتم الاستناد إليها في تفسير أسباب الانتقال السلس لدول وسط وشرق أووربا، من الديكتاتورية إلى نوع معقول من الديمقراطية، وفشل العراقيين في تحقيق ذلك، هو أن الشعوب التي يتم تحريرها من الأنظمة الديكتاتورية التي تحكمها على أيدي القوى الغربية مثل الولايات المتحدة، ينبغي عليها في أقل تقدير أن تتبنى بعض القيم "الغربية" أو حداً أدنى من "القواسم المشتركة" مع الغرب، وهي القواسم التي ستشكل فيما بعد جسراً للعبور نحو القيم الديمقراطية الكاملة. كان هذا -وبوضوح تام- هو حال الوضع في ألمانيا الشرقية، ورومانيا، وبولندا، وتشيكوسلوفاكيا، بل وحتى روسيا ذاتها، بمجرد أن تجرعت الشيوعية مرارة الهزيمة أمام الغرب. كانت تلك الدول تتقاسم في الأصل كثيراً من القيم والسمات المشتركة مع الغرب، وهو ما جعلها أكثر استعداداً للتحرك قدماً إلى الأمام بدلاً من الانخراط في تسوية الحسابات الداخلية الحقيقية أو المتوهمة. وتشمل القيم المذكورة ما يلي: ثقافة علمانية راسخة، تقدم تكنولوجي وعلمي، مساواة بين الجنسين، تعليم جيد للسكان، قدر لا بأس به من الليبرالية (على المستوى الاجتماعي في المقام الأول). هذه العناصر شكلت في النهاية ما أشرت إليه بـ"الجسر" المطلوب للانتقال بشكل سلمي تقريباً نحو نوع من الديمقراطية، اختلفت درجته من دولة لأخرى، لكن دون قدر كبير من الانكسارات والانقسامات والعنف والفوضى. وها هي تلك المجتمعات قد أصبحت اليوم جزءاً من المنظومة الغربية القائمة على المشروعات الحرة، وحرية التعبير، والتطور السلمي، كما أصبحت مندمجة بشكل جيد مع أوروبا الغربية. من الناحية الفعلية، لا يمكن القول إن أياً من تلك القيم أو السمات، وخصوصاً العلمانية والمساواة بين الجنسين، موجودة في العالم الإسلامي والعربي. لن نستطيع أن نعثر على مثل تلك القيم والسمات في دول مثل العراق وسوريا والجزائر وباكستان وأفغانستان والجمهوريات الإسلامية التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. لكن بدلاً من ذلك سنجد في تلك المجتمعات بُنى قبلية ودينية وعرقية تقوم على مبدأ أن مصلحة القبيلة أو مصلحة الدين أو العرق تأتي قبل المصلحة العامة للوطن والأمة. والشيء الذي يبدو أنه يحدث في العراق الآن، والمؤكد أنه سيعيد إنتاج نفسه في دول مثل تلك المشار إليها عندما تتوافر ظروف لذلك، هو شيء مشابه لما يحدث عادة في المجتمعات التي تعاني من فترات طويلة من القهر، وهو أن الشرائح المجتمعية التي كانت تعاني من القهر تتحول عندما تحين الفرصة إلى قهر من كانوا يقهرونها. ففي العراق ولبنان اليوم، نرى الشيعة الذين طالما تعرضوا للمهانة والإذلال على أيدي الأغلبية السُّنية في العراق، أو المسيحيين المارونيين في لبنان، يقومون الآن بتسوية حسابات الماضي من خلال فرق الموت، ومن خلال التعذيب واستئصال الثقافة شبه العلمانية التي كانت سائدة في ذينك البلدين، والتي كانت السمة الوحيدة الجيدة التي كان يتميز بها نظام صدام حسين في العراق والنخبة المتبنية للقيم الغربية في لبنان. ليس هناك شك في أن الكثيرين في الغرب قد سألوا أنفسهم سؤالاً كان يرد على أذهانهم باستمرار خلال السنوات الثلاث الماضية وهو: كيف يفكر أي عراقي، وكيف يفكر أتباع أي دين أو أي مذهب في العراق في استبدال نظام صدام حسين الديكتاتوري، الذي كان يقوم على أساس قبلي وعلى التفرقة بين الطوائف، بنظام آخر هو نسخة كربونية من النظام السابق؟ هذا هو السؤال الذي يعبر تعبيراً دقيقاً عما يحدث في العراق، حيث تهرع كافة القبائل وكافة المذاهب وكافة الأعراق الآن إلى تحقيق مصالحها على حساب الآخرين، وتسعى إلى تبوؤ القمة لتكون فوق الآخرين، لأن كل قبيلة وكل طائفة وكل شريحة لم تكن تفكر في العراق كوحدة واحدة، ولم ترَ أن ما تم كان تحريراً للعراق كله وإنما تحريراً لها. لذلك ينبغي على مراكز الأبحاث والدراسات الراسخة في الغرب وفي الشرق، ومعها أساتذة الجامعات، وأجهزة الاستخبارات، والمؤسسة العسكرية والمجتمعات المدنية والسياسية والمفكرين والمحللين المستقلين، عندما يساهم هؤلاء جميعاً بدراساتهم وتحليلاتهم لمعرفة وتحديد الخطأ الذي ارتكبته الولايات المتحدة في العراق، أن يراعوا الموضوعية أولاً وأخيراً، وليبتعدوا عن الاعتبارات الحزبية أو الأيديولوجية ذات الأفق الضيق. ولكي نجعل هذا الكوكب كوكباً أفضل، فإن ما هو مطلوب إنجازه، إلى جانب ذلك، هو أن تعمل جميع القوى على إعادة تعريف "القيم العالمية" وتحويلها إلى صيغة موحدة يتم اعتناقها من قبل الجميع. وهذه القيم لن تكون بالطبع قيماً أميركية فقط، وإنما ستكون قيماً مناسبة ولائقة بحيث يمكن لكافة القوى العظمى في عالم اليوم، أعني الولايات المتحدة والصين وروسيا واليابان وأوروبا -أن تتفق عليها وتحترمها بانضباط وصرامة.