أقام قسم "وجهات نظر" في صحيفة "الاتحاد" ندوة لكتّابه، كان موضوعها النووي الإيراني وأمن الخليج. وقد تناولت ندوة اليوم الواحد العلاقات الخليجية، والعلاقات العربية- الإيرانية من جوانبها كافة، وما كانت هناك خلافات كبيرة في التوصيف والوقائع، بل اختلف المحاضرون والمعقِّبون والحاضرون في النتائج والاستنتاجات. ما كان هناك اختلاف كبير في توصيف الموقف الراهن، والذي يشهد صراعاً بين الولايات المتحدة وإيران، يظهر على الأرض العربية في العراق ومن حول سوريا، وفي لبنان وفلسطين. وقد بدأ الأمر قبل ثلاث سنوات عندما ظهر التوتُّر بين الأميركيين فالأوروبيين من جهة، والإيرانيين من جهةٍ ثانية، بشأن البرنامج النووي الذي تُطوِّره إيران للأغراض السلمية، تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة النووية. إذ اشتبهت القوى الغربية بأن إيران إنما تطوّر برنامجاً يوصل إلى إنتاج القنبلة أو سلاح الدمار الشامل، فلا حاجة لإيران بتوليد الطاقة وهي الغنية بالنفط والغاز. ثم إن بين ما يدل على ذلك هذا الاستثمار الهائل في تطوير السلاح الصاروخي منذ التسعينيات من القرن الماضي، ووصولاً إلى مناوراتها قبل أيام والتي ظهرت فيها صواريخ "شهاب-2" و"شهاب-3" والتي مداها ألفا كلمتر، وهذا يعني شمول الشرق الأوسط كله وآسيا الوسطى وجزء من روسيا، وأفغانستان وباكستان والهند، وغيرها. والخطير في الصواريخ بعيدة المدى أنها تُصنّع عادة لتحمل رؤوساً نووية. وقد ردّت إيران وقتها -وقبل الانتظام في الخطاب-: هناك عدة دول في المنطقة تملك أسلحة نووية من بينها إسرائيل وباكستان والهند، فلماذا تثير مخاوفكم إيران التي لم تُنتج شيئاً بعد، ولا تثير مخاوفكم إسرائيل مثلاً؟ ثم لماذا يكون من حق إسرائيل امتلاك سلاحٍ نوويٍ، ولا يكون ذلك من حق إيران؟ لكن على أي حال، فإننا لا نريد امتلاك السلاح النووي، بل ما نريده حق البحث العلمي، وحق التقدم، وحق الوصول للاستخدام السلمي للطاقة. وما اعتبرت جهات عدّة بينها الأوروبيون وبعض الخليجيين، أن الخطر النووي الإيرانيّ عاجل ومحقق. ثم حدث الأمران الآخران: التطوير الصاروخي الإيراني، وصيرورة المشرق العربي ساحة معركة بين الولايات المتحدة وإيران. كانت الولايات المتحدة -وبصمت من جانب إيران- قد استولت على أفغانستان في بدء الحرب على الإرهاب، ثم كان هناك شبه تعاون بين الطرفين عندما غزا الأميركيون العراق، والطريف أن ذلك كان من أجل إزالة أسلحة الدمار الشامل العراقية، ومن أجل منع صدام من استمرار التعاون مع الإرهابيين! بيد أن الأمر انتهى بسقوط الهدفين الوهميين، وظهور هدف جديد هو بناء الدولة الديمقراطية بالعراق، لتكون نموذجاً لدول النظام الشرق أوسطي "الجديد" أو "الكبير". وهكذا، ففي الوقت الذي كان يجري فيه تخريبُ العراق، كان يجري أيضاً "نشر الديمقراطية" على الطريقة الأميركية بالمنطقة، باعتبار الأنظمة العربية أنظمة ديكتاتورية، واعتبار الدول دولاً فاشلة. فوقع العرب خليجاً ومشرقاً ومغرباً بين فكّي كماشة: الحرب على الإرهاب، والدول الفاشلة. وإبّان التهاب أيديولوجيا "المحافظين الجدد" هذه في سائر أنحاء العالم، وفي المقدمة الشرق الأوسط أو المشرق العربي، قررت إيران فكّ الحصار عنها، ومحاولة الكسب أيضاً بعد توفيقها على حساب الأميركيين في أفغانستان والعراق، فكان الاشتعال في سوريا ولبنان ودعم "حماس" في فلسطين، وأخيراً حرب "حزب الله" الناجحة ضد إسرائيل. حاول بعض الباحثين في مؤتمر صحيفة "الاتحاد" الربط بين الأمرين: النووي، وكسب النفوذ في منطقة المشرق وربما الخليج، وقد اعتبروا ذلك بين ثوابت السياسة الخارجية الإيرانية. فالاهتمام بالنووي، وبالسلاح المتطور، موروث منذ أيام الشاه، بيد أن الشاه كان أكثر تواضعاً أو واقعية في تحديد أهداف سياسته الخارجية، إذ ما كان مهتماً حقيقة إلا بالمشاركة في أمن الخليج، بينما الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ولدوافع أيديولوجية، مهتمة بالمشرق كلّه الذي سمته أخيراً، الشرق الأوسط الإسلامي! هذه هي الوقائع، فماذا تريد إيران إذن؟ قال البعض: تريد مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج، وأوراقها في ذلك العراق ولبنان وسوريا وفلسطين، وإمكان تهديد أمن الخليج، لكن هل من شروط المشاركة امتلاك النووي؟ قال البعض: النووي ليس أكثر من أمرٍ رمزي لإثارة المشاعر الوطنية، ذلك أن كل الملفات الأخرى هي أعباء ودفعات على الحساب يقوم بها الشعب الإيراني دون أن يستفيد شيئاً في تحسين شروط حياته. وإذا دخلت إيران النادي النووي، وهي دولة قومية كبرى في المشرق، ثبّتت موقعها الاستراتيجي في المنطقة والعالم. أين تكمن مخاوف الخليجيين من ذلك المشهد المتصوَّر؟ يظهر القلق في الخليج من الأخطار البيئية نتيجة التسرب النووي، كما من الصواريخ الإيرانية، إذا ازداد التوتر بين إيران والولايات المتحدة، وأقدمت إيران على ضرب القواعد الأميركية في الخليج. ثم هناك الخشية من الاضطراب والفتن الداخلية كما يحدث في العراق ولبنان وفلسطين، وهذا يحدث الآن نتيجة الاصطدام الأميركي- الإيراني. إن الغزو الأميركي للأرض العربية في العراق، والدعم المطلق لإسرائيل خلال السنوات الست الماضية، والحملة على كل الدول العربية وبخاصةٍ دول الخليج بحجة مكافحة الإرهاب، وضرب الدول الفاشلة التي ولّدت الإرهاب، ونشر الديمقراطية، كل ذلك أضعف الممانعة العربية، وزاد من الغربة بين الأنظمة والجمهور. ولذلك فعندما انطلقت المواجهة بين إيران والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، أمكن لإيران أن ترفع عَلَمَ فلسطين، وأن تحظى بدعم الجمهور العربي حتى في الخليج فضلاً عن أقطار المشرق العربي. ماذا تستطيع دول الخليج وأنظمة المشرق أن تفعل؟ كان هناك نقدٌ لسياسات الخليجيين حتى الآن تجاه الولايات المتحدة وتُجاه إيران. فقد تحدثت محاضرتي عن ضرورة وجود سياسة دفاعية خليجية، ونظام لحماية البيئة، كما تحدث محاضر آخر عن سياسات منسّقة لحديثٍ استراتيجي مع إيران. بيد أن هذا الحديث الاستراتيجي ليس مفيداً إن لم تكن هناك سياسة دفاعية خاصة، وليست قصراً على الولايات المتحدة وأساطيلها وقواعدها، وأبلغ دليل على ذلك ما يوشك أن يجري بعد الانتخابات النصفية الأميركية، وبدأ قبلها. فقد استقال قبل ثلاثة أيام رامسفيلد، وزير الدفاع الأميركي، وآخر "الصقور"، سواء أكان من "المحافظين الجدد" أو ليس منهم. وكانت إدارة بوش الثانية قد بدأت بانتهاج سياسة جديدة تجاه الملف العراقي، والملف الفلسطيني، بل والملف اللبناني. فهي ما عادت تميل لاستخدام الجيوش الأميركية بشكل مباشرٍ وعادت للاستخبارات ووزارة الخارجية. وشكّل بوش لجنة الحكماء برئاسة جيمس بيكر لمراجعة السياسات بشأن العراق، والذي يبدو أن هناك اتجاهاً لإعطاء إيران وربما سوريا، دوراً في تسوية داخليةٍ محتملة بالعراق. وفي حالة كهذه إنما يحسب الحساب لتوازنات القوة من حول العراق، ومن حول فلسطين، ولذلك ستبدو إيران في كل مكان، بينما يبدو العرب في المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وإيران، بل وربما بعد تركيا. بل إن البعض لا يريد التحدث عن العرب، إنما عن الدول العربية، والدول العربية -حتى في الخليج- لا تبدو على توافقٍ وتنسيقٍ في سياساتها الدفاعية أو الدبلوماسية. وصحيح أن الولايات المتحدة لا تفرّط في أمن الخليج، لأنه جزء من أمنها القومي، لكن أحاديث الشراكة كثيرة، وهي تتناول الجغرافيا السياسية، وتتناول المياه والاقتصاد، وإن لم تتناول الأمن مباشرة. إن إيران لم تجمع هذه الأوراق عبثاً، فهي ما تزال تصرُّ على صفقة شاملة، بينما تريد الولايات المتحدة حلّ مشكلتها بالعراق وحسب، ولن تقبل إيران ذلك، وستلجأ الولايات المتحدة كما تفعل دائماً مع القوى المحلية والإقليمية، إلى التوتير والاستنزاف، وسيطول الأمر من الجانبين. إنما المشكلة أن هذا التجاذب يجري على أرضنا، ويفتّت مجتمعاتنا، وإنما المشكلة أنه يُضعِف المناعة ويهدد الاستقرار، فما حدث في العراق، ويحدث في لبنان لا يمكن نسيانه. ولابد من توفير شروط واقعية للوقاية من جهة، وللمبادرة تجاه الولايات المتحدة، وتجاهُ إيران من جهة أخرى. كانت ندوة "وجهات نظر" بجريدة "الاتحاد" فرصة لتبادل الرأي بين كُتّاب اجتماعيين واقتصاديين واستراتيجيين من سائر أنحاء الوطن العربي، وصحيح أن الجديد ما كان كبيراً وكثيراً، لكن التشاور أفضى إلى استنتاجات تستحق الاعتبار وسط الظروف الراهنة.