من المعروف أن الصحافة مهنة الحقيقة والسلطة الرابعة التي تسعى دائماً للنقد البناء، وهي رسالة وليست تجارة تعمل على توصيل رسالة إعلامية للمتلقي؛ وليست شعارات جوفاء وأبواقاً تنعق في فضاء المجتمع، فهي كلمة موجهة لعقول الرأي العام، ودور مهم لتقويم السياسات المتبعة ومكافحة الفساد، وإذا كان ذلك كله صحيحاً، فمن المفروض أن تتعامل الصحافة مع الأخبار والبيانات والأنباء بأمانة ودون تحيز شخصي ودون انتقاء يحمل نوايا مغرضة، ووفق قيم أخلاقية ومهنية يلتزم بها العاملون في مجال الصحافة. ولكن الأمر بات مختلفاً نسبياً في بعض الصحف المتداولة اليوم، لا نقصد هنا "الصحف الصفراء"، بل نقصد الصحف الإخبارية التي تتسم بالجدية، بعد أن أصبحت الصحافة في عصرنا الحالي "مهنة من لا مهنة له"، لذلك فإن التجاوزات والإخفاقات وتراجع المبادئ والقيم، ظلت في الإطار المقبول وفي حدود يصعب معها التعميم لتصبح ظاهرة تفرض ضرورة التوقف عندها، والعمل على مواجهتها، ولكن بعد ظهور "صحافة المنازل" وما تعكسه من أثر مباشر على الرأي العام من النواحي الفكرية والعلمية والفنية والأخلاقية، فقد بات الأمر في حاجة إلى وقفة موضوعية لفهم أبعادها ودلالاتها. نقصد بـ"صحافة المنازل" الصحف التي توزع على الشقق السكنية فور صدورها دون مقابل ودون اشتراك ودون أي طلب أو التزام من جمهور القراء، أي صحف "خدمة التوصيل للمنازل"، وكأنها "وجبة" إخبارية مقصودة وموجهة لفئة بعينها، أو إعلان ودعاية عن منتجات أو نشرات حول خدمات يكون القاطنون في حاجة إليها لتسيير حياتهم ومعيشتهم. وتتنوع صحافة المنازل بين صحف الإعلانات والدعاية، والصحف الإخبارية. وإذا كان للنوع الأول المبرر والدافع لتوزيعه بالمجان على المساكن وبإصرار تحسد عليه، على اعتبار العائد المادي المجزي الذي تحصل عليه من المعلنين، فإن الصحف الإخبارية ليس لديها أي مبرر لتوزع بالمجان مع خدمة التوصيل إلى المنازل، إلا "إذا" كان هناك شيء في نفس يعقوب، ويعقوب هنا هو المسؤول عن إصدارها أو نشرها أو تمويلها، ومثل هذه الصحف تثير العديد من التساؤلات قبل أن يكون لها مخاطر هائلة. ومن أهم هذه التساؤلات: ما الهدف من توصيل هذه الصحف إلى المنازل مجاناً؟ وما هو المضمون أو المحتوى الذي تنشره هذه الصحف؟ وهل لدى الصحيفة توجهات خاصة في الرأي أو الفكر أو الرؤى؟ وما هو العائد المادي أو المعنوي أو الإعلامي أو الدعائي الذي يجنيه القائمون عليها من جراء طباعتها ونشرها مع العلم أنها تنشر دون ذكر أسماء صحفييها أو مراسليها؟ وهل هناك قراء مهتمون أو معنيون بهذه الصحف؟ وما هو تأثيرها عليهم؟ ولماذا انتشرت الآن هذه الصحف؟ وهل توجد جهة في الدول التي تنشر بها تتابع مثل هذه الصحف؛ ليس بهدف الرقابة بقدر التعرف على توجهاتها؟ كل هذه الأسئلة وغيرها تشير بوضوح كافٍ إلى مدى الشبهة التي تثيرها هذه الصحف "المنزلية"، فما بالنا بمخاطرها وآثارها على القارئ من ناحية، والمجتمع والدولة من ناحية أخرى، إذا علمنا مدى تأثير الخبر على الرأي العام وتداعياته على أمن الدول. أول هذه المخاطر هو مضمون وأسلوب معالجة هذه الصحف المنزلية لما تطرحه من أخبار منتقاة، فهي تحمل توجهات وأفكار ورؤى القائمين عليها وهم عادة من دول وجنسيات أخرى غير الدول التي تنشر بها، لذا فهي تنشر أخباراً وتحليلات بعينها ذات دلالات خاصة تعكس أوضاعاً داخلية غير حقيقية عن الدولة التي تنشر بها من جانب، وتبث قيماً وتقاليد وأعرافاً لا تنتمي لمواطني هذه الدولة من جانب آخر، فهي تنتقي للنشر كل ما هو مسيء إلى المجتمع من أخبار وحوادث وتصرفات وسلوك فردي وتجعله ظاهرة، وكأنه يوجد حالة من عدم الاستقرار والصراع الداخلي، يجري على أرض هذه الدولة بين مواطنيها والوافدين العاملين فيها، ويشكك في القوانين المتبعة، ويثير النعرات العرقية والطائفية بين السكان. ونظرة واحدة على أحد أعداد صحيفة أسبوعية تصدر باللغة الإنجليزية كل خميس في إحدى دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية نجدها غارقة لأذنيها في عرض حوادث منتقاة حول اضطهاد الأجانب، والمعاملة غير الإنسانية للخدم، والتشكيك في أساليب عمل غرفة التجارة الوطنية ودورها ومسؤولياتها؛ وجعلها سبباً في هرب المستثمرين العرب والأجانب، وتبرير فضائح الممثلين الأجانب والدفاع عن سلوكهم والترويج لأعمالهم، وعرض المواقف المتطرفة ضد الإسلام والمسلمين، والترويج للسلع الاستفزازية، وبث أخبار غير موثوق من مصادرها، لذلك فإن المطلع على أحد أعداد هذه الصحيفة يشعر بأن الدولة التي تنشر بها غير مستقرة داخلياً. وثاني مخاطر الصحافة المنزلية هو الرسالة الإعلامية التي تسعى إلى نشرها وتأكيدها لصياغة الرأي العام الموجهة له، وهي عادة رسالة ظاهرها إخباري، في حين أن باطنها يحث على العداء ضد مواطني الدولة والمجتمع الأصلي الذي تنشر به، مستغلة كرم وسماحة وحرية النشر في هذه الدولة، فهي تتخذ من انتقائها للأخبار ستاراً لتحديد الرسالة الإعلامية المراد توصيلها، ولا تتخذ سبيل التحليل الموضوعي والعرض العلمي الرصين طريقاً للوصول إلى الحقائق، بل تعمد إلى الرمز والإشارة والإثارة لشحذ العقل والتفكير فيما تصبو إليه، حيث التركيز على اختيار حوادث بعينها سلبية وفردية تحمل مغزى خاصاً وحشدها بكثافة، تقود بالضرورة إلى فهم خاطئ، وإلى تضليل الرأي العام وتوريطه في اتخاذ مواقف مخالفة للحقيقة، خاصة إذا كانت هذه الصحف تخاطب فئة معينة من المجتمع. أما ثالث مآسي الصحافة المنزلية فهو الجمهور الذي تتجه إليه، والذي يقرأ باللغة الإنجليزية وبالطبع يحمل قدراً معيناً من الثقافة والتعليم حتى يحرص على قراءة هذه الصحف، فتكون الرسالة الإعلامية "المقصودة" موجهة لمتلقٍ معين "مقصود"، وهو بالطبع ليس من مواطني الدولة التي تعتبر لغتها الأساسية هي العربية، وقد فطن القائمون على هذه النوعية من الصحافة إلى أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه في التأثير في توجهات القارئ وتوجهاته، ولكن المريب أن هذه الصحافة تُغْفِل عن قصد اسم المراسل أو الكاتب الذي أورد الخبر أو كتب التعليق، لأن المهم هنا هو الرسالة الإعلامية المطلوب توصيلها، خاصة أن هيكلية الخبر وصياغته تقود إلى النتيجة المرجوة وتدفع القارئ إلى استخلاص وجهة النظر المعينة، ومما يزيد من خطورة الموضوع أن المتلقي يكتفي عادة بهذه الصحيفة التي تأتيه مجاناً وتنشر بلغته، الأمر الذي سيجعله معتمداً عليها كمصدر أساسي في متابعة الأخبار. ويخطئ البعض إذا اعتقد أن هذه الصحافة تندرج تحت مصطلح "الصحافة الصفراء"، أي الصحافة عديمة النفع والقيمة التي اصفرّت أوراقها نتيجة تقادم معلوماتها ولم تعد ذات صلة بالحاضر، لأن هذه الصحافة تحمل أحداثاً معاصرة ويومية وتتابع الأخبار بكل دقة وحرص وإصرار، وتنتقي ما تراه مناسباً لتوجهاتها، وتحافظ على قرائها ومتابعتهم لها، وهي تعمل في هدوء وتزحف في صمت لتصل إلى غايتها، وهدفها المحدد وهو إثارة البلبلة. ومن المثير أن هذه الصحف تصدر بأعداد معينة وفق عدد قرائها، وتحرص على عدم وقوعها في أيدي الغرباء، وإذا تسربت خطأ فإن المبرر أنها تعرض أخباراً حقيقية وغير مزيفة. إن صحافة "التيك أواي" من الناشر إلى المنزل، التي تحمل وجبة الأخبار، نوع من الطعام الفاسد الذي يسمم العقول ببطء شديد، ويقود الشهية الفكرية لفئة معينة من المجتمع إلى ما يريد من توجهات، بينما باقي تركيبة المجتمع تنعم في غياهب التسلية.