العمل النبيل الذي قامت به صفحات الرأي "وجهات نظر" في جريدة "الاتحاد"، في "ضغط" خمسين دماغاً مبدعاً في ورشة عمل صغيرة، يذكرني بقصتين: الأولى وردت في كتاب "عندما تغير العالم" لمؤلفه جيمس بيرك عن اجتماع كان الكاهن ميرسين ينظمه في ضواحي باريس في القرن السابع عشر، والثانية لها علاقة بالملف النووي الإيراني، والذي اجتمعت على مناقشة موضوعه أدمغة نبيهة، يسعد المرء أن حالفه الحظ فسمع إلى مثل هذه النخبة، ما يذكر بمشروع مانهاتن عام 1942. ومؤتمر "منتدى الاتحاد" الذي عقد في الـ7 من نوفمبر 2006، وضم باقة مقتدرة من كتاب صحيفة "الاتحاد"، هو أكثر من لقاء عابر، بل هو لقاء العبقريات الذي دشن تقليداً جديداً في حياة "الاتحاد" بين كتابها ومفكريها. والفضل في هذا يعود للدماغ النبيه الذي وقف وراء فكرة المؤتمر وتنفيذها وتنظيمه. المهم أن هذا اللقاء، بين أوراق عمل ومداخلات وتعليقات وحوارات جانبية وتعارف وجهاً لوجه بين كتاب يتراءون في غرف معزولة من زوايا الكتابة ويومياتها، قفزت إلى الذهن فكرة جعله لقاءً سنويا لتبادل الآراء، وذلك خلال عدة أيام، لمناقشة مواضيع شتى، ولفتح باب اللقاء أمام شريحة عريضة من المهتمين. وهو على كل حال مكسب جديد لجريدة "الاتحاد". إن عمل هذا العمل المشرف على صفحات "وجهات نظر" في الجريدة، والذي يستقطب أدمغة لامعة من العالم العربي، يذكر بقصة الكاهن "ميرسين" الذي كان من المساهمين المهمين في عصر التنوير، وفي استحداث لقاء أسبوعي مرتين في جنوب فرنسا، لنخبة من المفكرين في أوروبا، وهذا اللقاء كان البوتقة التي تفاعلت فيها العقول الأوروبية وأبدعت. ويذكر جيمس بيرج مؤلف الكتاب أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت كان ممن يواظب على الحضور، وفي إحدى الجلسات ضايقته ذبابة بطنينها؛ فأراد التخلص منها، وفكر في كيفية الوصول لها، فقاده عقله إلى الهندسة التحليلية، وخطوط الإحداثيات البيانية، فكان هذا اللقاء فتحاً في الرياضيات والهندسة وعلم الإحصاء. إن لقاء الأفكار يشبه في تركيبه الداخلي ما قاله القرآن من أن عشرين صابرين يغلبون مائتين؛ وفي لقاح الأفكار الهيجلي ينبت قانون الجدلية والتضاد وخروج القضية من القضية، والقرآن يعتبر أن الزوجية قانون يسود الوجود، فسبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون. والزوجية قانون طاغ يتخلل كل مستويات الوجود بما فيها الأفكار، فيولد من الأفكار ذرية طيبة جديدة هي أقرب زكاة ورحماً، تلك التي حرص عليها هذا المنتدى في دفع العقول العربية لتتفاعل وتتبادل الآراء ويستفيد كل مما عند الآخر، فكان هذا العمل أكبر من أي ملف، بما فيه الصنم النووي الذي تعكف إيران على عبادته هذه الأيام، وهو صنم لا يضر ولا ينفع. أما اللقاء الفكري فهو تلك المنصة التي يمكن انطلاقاً منها مناقشة أعقد القضايا، وهي عملة عربية نادرة. والقصة الثانية التي أحب ذكرها عن العمل العلمي هو مشروع (مانهاتن) الذي جمع تلك الأدمغة النادرة من كل العالم، وبعمل مكثف، وتمويل بلغ ملياري دولار، ما مكن فريق العلماء من الوصول للسلاح النووي بطريقتين، قنبلة اليورانيوم 235 والبلوتونيوم 239. وكان رأس المشروع العالم الرياضي الفيزيائي (روبرت اوبنهايمر) الذي استقطب أروع العقول لإنتاج أبشع سلاح، وهو ما اجتمعنا حوله، أي ذلك الذي تتطلع إيران لامتلاكه، كمن يذهب للحج في 15 ذي الحجة بعد أن رجع الناس من عرفات! لقد مشت رحلة السلاح النووي في ثلاثة أو أربعة أجيال، وفي النهاية تم تجريب عشرات النماذج، وأدرك العقلاء والعسكريون في العالم أن رحلة التسلح النووي لا يمكن متابعتها، وبذلك انقلبت محاور التاريخ للمرة الأولى، إذ طريق الحرب مغلق، ومن أراد شن الحروب يمكن أن يبدأ بها، ولكن نهايتها ليست بيده، وأن مؤسسة الحرب ماتت، وأن ما بشر به الأنبياء من سلام عالمي بات قريباً جداً. شكراً لصحيفة "الاتحاد" ولأسرة تحرير "وجهات نظر" على الضيافة التي لا يقترب منها أي كرم حاتمي؛ فليس مثل زاد العقول زاداً، وبه تميز الإنسان، وحسده الشيطان، وسجدت له الملائكة. لقد سحرت بوقع الكلمات من المتكلمين، وكلما قام واحد أجاد وأبدع، ومن يسكت تظنه قليل البضاعة، حتى إذا جاء دوره أذهل وأمتع. إنها صحبة جليلة لقوم أجلاء فبهداهم اقتد!